2011-05-23

لماذا فشلنا مرة ثالثة؟


لماذا فشلنا مرة ثالثة؟
بقلم: د.عبد المنعم سعيد
د.عبد المنعم سعيد
635
عدد القراءات


ما زلنا نؤدي واجب المراجعة لما جري لمحاولات الإصلاح خلال المرحلة السابقة من تاريخنا‏.‏ ولمن يتعجلون‏,‏ فإن الرؤية للحاضر‏,‏ وماذا نفعل الآن وفي المستقبل‏,‏ لا يمكن الذهاب إليه دون هذا الجرد
  لما جري لأنه مهما حاولت كثرة منا أن تختزله في كلمات قليلة قاطعة ومانعة يعودون بنا إلي نفس الأخطاء التي ارتكبناها في الماضي القريب والبعيد معا. ففي كل منعطف تاريخي وصلنا له نتيجة الثورة أو الانقلاب أو الهزيمة العسكرية نجد أنفسنا نبدأ من جديد, ويكون الثمن غاليا في كل مرة, مضافا لها عودة لارتكاب نفس الأخطاء مرة أخري.
ومن الزاوية التي عشتها سياسيا وفكريا خلال ما يقرب من عقد كانت هناك قصتان هيمنتا علي الساحة السياسية المصرية: لجنة السياسات بالحزب الوطني الديمقراطي; وتوريث جمال مبارك للحكم في مصر خلفا لوالده في مقعد الرئاسة. كلتا القصتين ارتبطت بشخصية واحدة هي جمال مبارك ومن ثم خلقت حالة من الدخان المعتم علي السياسة المصرية إلي الدرجة التي جعلتها تغفل القوي الرئيسية في النظام السياسي والتي كانت تكيف سياساته التي بعضها كان مرئيا وبعضها الآخر كان ولا يزال بعيدا عن دائرة الضوء.
كانت لجنة السياسات تنقسم إلي ما سمي بالمجلس الأعلي للسياسات عدد أعضائه يتراوح حسب الأوقات المختلفة حول مائة وثلاثين عضوا, ومجموعة من اللجان الفرعية التي تهتم بمعظم المجالات في الدولة تقريبا ما عدا الأمن القومي والأمور السياسية ويبلغ عدد أعضائها جميعا مع المجلس قرابة سبعمائة عضو. وكانت الصورة الخارجية للجنة, والتي دعمتها وأذاعتها بتركيز شديد أجهزة الإعلام الخاصة والتي ازدهرت خلال هذه السنوات حتي أنها سبقت بدرجات مختلفة ما كان معروفا بالإعلام القومي من حيث المتابعة وعدد المشاهدين; إنها هي الحاكمة العليا للسياسة المصرية في جميع أوجهها, وهي التي تديرها بحكم النفوذ غير العادي المتصور لأمين اللجنة.
ولكن الواقع لم يكن كذلك بالمرة, ولم تكن لجنة السياسات أكثر من فقاعة كبيرة كبرت بفعل الحديث الناقد لها في أجهزة الإعلام, وبفعل شعور أعضائها بالأهمية نتيجة تلك المكانة التي تولدت من الهالة الإعلامية, ومن حال السباق الكبير من جحافل ساعية للانضمام إلي اللجنة. أما الواقع فلم يكن كذلك بالمرة حيث كان المجلس الأعلي للسياسات يجتمع مرة واحدة شهريا في السنوات الأولي لتكوينه وبعد ذلك تباعدت مواعيد الانعقاد, وحل محلها الانعقاد الكبير للمجلس مع كل أعضاء اللجان الفرعية وهو الأمر الذي كان يمنع النقاش الجدي. كانت المهمة المحددة للمجلس أن يعمل بحيث يكون بمثابة عقل الحزب أو مركز التفكير والبحوث التي تنطلق من الحزب إلي الحكومة وبقية أجهزة الدولة. وبالنسبة لي لم يكن ذلك مختلفا عما تعودت القيام به في الحياة العملية لولا أنه تم استبعاد' السياسة' و'النظام السياسي' من أنشطة المجلس ومن ثم كان علي مراقبة بقية الأمور الاقتصادية والاجتماعية المهمة التي جرت فيها الكثير من البحوث والدراسات الجادة التي كانت تتحول إلي نوع ما من مشروعات القوانين.
هنا تحديدا كان يظهر مدي فاعلية لجنة السياسات حيث كانت مشروعات القوانين تذهب إلي الحكومة; وإلي مغارة أخري من الأجهزة والمؤسسات البيروقراطية المعروفة وغير المعروفة ثم تظهر بشكل مختلف تماما عند عرضها علي مجلسي الشعب والشوري. وكم كان الأمر مضحكا أحيانا حينما يجد أعضاء المجلسين من أعضاء اللجنة قانونا آخر غير ذلك الذي جرت دراسته ومناقشته وأبديت في شأنه الدفوع, والحجج المضادة, ثم بعد ذلك يصبح علي الأعضاء الموافقة علي ما لم يتفقوا عليه من قبل.
جري ذلك علي الأغلبية من القوانين, سواء كان لها علاقة بالضرائب, أو بالبناء, أو بالطفل, أو الطاقة. ومازلت أذكر قانون الجامعات الأهلية والخاصة الذي تم التداول بشأنه في لجنة السياسات ولعب الدكتور حسام بدراوي والدكتورة هدي رشاد دورا مهما في الإعداد له مع آخرين. وذهب القانون إلي وزارة التعليم العالي ليظهر القانون بشكل آخر يكفل الهيمنة والسيطرة الكاملة لوزارة التعليم العالي علي الجامعات الجديدة. وكم كان الأمر مدهشا عندما عرض القانون علي مجلس الشوري أن كل مواد القانون تقريبا قد جري طلب تعديلها من أعضاء المجلس الموقرين حسام بدراوي وهدي رشاد, ولكن القانون مع ذلك جرت الموافقة عليه كما جاء تقريبا من قبل الأغلبية من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي, والأقلية من الأحزاب المعارضة التي ترحب بكل سيطرة وهيمنة حكومية علي الاقتصاد والمجتمع.
الحقيقة التي شاهدتها هي أنه فيما عدا شريحة صغيرة لا تتعدي أبدا ثلاثين عضوا من المصلحين فإن الأغلبية الساحقة من الحزب الوطني الديمقراطي, وما يزيد علي ثلثي الأعضاء في لجنة السياسات ينتمون إلي الاتحاد الاشتراكي العربي القديم وفكره القائم علي تدخل وسيطرة وهيمنة الدولة علي الاقتصاد والمجتمع وبالطبع السياسة. ولكن الأمر لم يكن في يد هؤلاء فقط, وإنما كان هناك ما هو معروف في الأدب السياسي التركي' بالحكومة العميقةDeepGovernment' والتي تنتمي إلي مؤسسات بيروقراطية مختلفة مدنية وأمنية حافظت دائما علي التصنيف الدولي لمصر والذي لم يضعها أبدا ضمن البلدان المنفتحة أو ذات اقتصاد سوق أو تلك التي نجحت في خصخصة مؤسساتها العامة.
كانت الصورة' الإعلامية' للمجلس الأعلي للسياسات مختلفة تماما عن واقعها الذي سرعان ما تحول هو الآخر إلي حقيقة بيروقراطية. كان جبل الإصلاحات الدستورية التي طرحت في عامي2005 و2006 قد تمخضت عن ثلاثة إصلاحات: الأولي إلغاء قانون الطوارئ من خلال وضع قانون لمواجهة الإرهاب; والثانية وضع قانون جديد للانتخابات يقوم علي نظام القائمة النسبية مما يجعل النظام السياسي أكثر انفتاحا; والثالثة قانون اللامركزية وهو ما يعطي للمحافظات والإدارة المحلية سلطات وقدرات أكبر. وهكذا شمر المجلس عن ساعديه من أجل إتمام هذه الإصلاحات, ولكن الجبل تمخض فولد فأرا فلم يتم أيا منها حتي رغم ما أعلنه المجلس والحزب عن الالتزام بتنفيذها. من ناحيتي لم أكن صامتا, فقد كنت حريصا ليس فقط علي عرض وجهة نظري في هذه الإصلاحات والإلحاح بشأنها داخل المجلس, ولكن أيضا عرضها في مقالات بالأهرام, والمصري اليوم, ونهضة مصر, وصحف وبرامج تلفزيونية أخري.
كان ذلك الفشل حادثا بينما كانت أجهزة الإعلام, وبعضها في الخارج أيضا, تري أن المهمة الأساسية للمجلس الأعلي للسياسات هو' تلميع' جمال مبارك لكي يرث حكم مصر. ولو كانت هذه هي مهمة المجلس فعلا فقد فشل فشلا ذريعا لأن الأغلبية الساحقة من مقترحات المجلس الإصلاحية تم إجهاضها وظهر أن فاعلية المجلس وبالتالي أمينه العام- لا وجود لها. ومازلت أذكر صرخات واحد من مصلحي مصر الكبار الدكتور صبري الشبراوي وهو يكرر في كل جلسة أننا لا نتقدم إلي الأمام خطوة واحدة بعد ما قلناه في الجلسات السابقة.
هنا فإن السؤال الطبيعي هو لماذا البقاء في مثل هذا المجلس المحدود القدرات والفاعلية؟ والإجابة هي أن هذا السؤال كان واردا بالفعل في ذهن كل المصلحين داخل المجلس, بل وتمت مناقشته بين أعداد منهم. وكانت المفاجأة أن الدكتور أسامة الغزالي حرب وكان من جماعة الإصلاحيين- خرج من المجلس الأعلي من السياسات وشكل حزب الجبهة الديمقراطية ومن ثم كان طبيعيا الانتظار حتي نعرف نتيجة التجربة التي ضمت مجموعة من الليبراليين المحترمين وعكست أوراق الحزب رؤية ليبرالية محترمة أيضا تقترب كثيرا مما كان يثيره الإصلاحيين داخل المجلس الأعلي للسياسات.
ولكن سرعان ما ظهر من التجربة أن الجماعة الإصلاحية نفسها ليست فقط مفككة, بل أنها غير قادرة علي تحقيق رؤية تحمي الحزب من أمراض الأحزاب الأخري. وبالتأكيد فإن خروج شخصيات مثل الدكتور يحيي الجمل والدكتور علي السلمي والسيدة مارجريت عازر بعد ذلك أضافت إلي الشعور بعبث السعي إلي الإصلاح من الخارج. كان هذا التفتت البادي في الساحة المدنية للأحزاب قد أعطي المصلحين في لجنة السياسات نوعا من العمي السياسي عن رؤية قوي المعارضة الشبابية التي كانت تتكون في المجتمع; ولكن ذلك لم يكن سبب ضباب الرؤية الوحيد. فقد كان انقسام الساحة السياسية إلي قوتين رئيسيتين: الحزب الوطني الديمقراطي في ناحية والإخوان المسلمين في ناحية أخري; يجعل الاختيار قائما ما بين الدولة المدنية أيا كانت عيوبها, والدولة الدينية التي كان مشروع برنامج الإخوان قد أعلنها في عام.2007 هذه الحالة من الاستقطاب جعلت الاختيار صعبا آنذاك, بل أنه يجعل الاختيار صعبا حتي الآن بعد أن أصبح الإخوان جماعة مشروعة ولها حزبها الذي يقول بالدولة المدنية; ولكن المرشد العام للجماعة السيد محمد بديع صرح بوضوح كامل أن عصر' لا دين في السياسة' قد انتهي وأننا إزاء عصر آخر لا ينفصل فيه الدين عن السياسة. انعكاسات ذلك علي السياسة المصرية الآن بعد الثورة لا يجعل الأمر أكثر سهولة في الاختيار مما كان عليه من قبل.
ولكننا الآن إزاء جيل آخر من الساسة; وربما لا يزال هناك عدد غير قليل من أعضاء لجنة السياسات في الوزارة وبين المحافظين وفي مراكز مختلفة قريبة من الحركات الثورية, ولكن هؤلاء جميعا يتعاملون الآن مع عالم ومناخ من اللاعبين مختلف تماما عما كان عليه الأمر منذ شهور قليلة مضت. والآن, ماذا كان الحال في موضوع التوريث؟


جميع حقوق النشر محفوظة لمؤسسة الاهرام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق