لا شيء سوى «غوغل»!
عبد المنعم سعيد
الاربعـاء 24 جمـادى الاولـى 1432 هـ 27 ابريل 2011 العدد 11838
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: الــــــرأي
العالم العربي الآن تعمه ثورات كثيرة؛ ومن كان يتحدث كثيرا عن الجمود العربي أصبح مبهورا أولا «بالحراك السياسي» الجاري في شوارع الدول العربية، ثم انقلب الحال تماما وأصبحت «الجماهير» كلها في الشارع، وأصبح كل من تعرض للغاز المسيل للدموع له الحق في الحديث باسم الشعب.
انقلب الحال العربي تماما، ومن كان لديه مشكلة في حالة اللامبالاة العربية أصبح الآن يضع يده على قلبه، لأن المبالاة جعلت كل العرب، السياسيين الآن بكثرة، يستطيعون التحدث في كل الموضوعات. شاهدت في واحدة من المحطات التلفزيونية المصرية الخاصة حديثا دار بين ثلاثة من ثوار «التحرير» ووزير المالية المصري الدكتور سمير رضوان. أولا: رفض الثوار أن يكون الحديث أسئلة من جانبهم وإجابات من جانب الوزير، وإنما تعليقات ومداخلات. وثانيا: كانت تعليقاتهم ومداخلاتهم المطولة محاضرات للوزير الذي لم يجد ما يقوله وقد انتهى الوقت إلا أن يقول إن الشباب على حق، وكل ما يحتاجه هو الوقت حتى يستطيع تحقيق ما يطالبون به.
كان الشباب يفهمون في كل شيء؛ الموازنة والأجور وحركة البنوك وكيفية إدارة الثروة ومقاومة الفقر رغم أن الواضح أنهم لم يقرأوا الميزانية يوما، ولا عرفوا شيئا عن علاقة الأجر بالعمل والإنتاج. القصة كلها هي كيف نوزع الأموال العامة، ونأخذ ممن أنتجوا وبنوا المدن، وعمروا السواحل، وأقاموا المصانع. وكانت الفكرة المسيطرة هي أن الوطن سوف يصير أكثر سعادة ساعة توزيع الفقر بالتساوي. كان القول حماسيا للغاية، وكان المذيع مبتسما طوال الوقت، لم يصحح رقما، ولم يذكر حقيقة، وكأن العالم قد انقلب رأسا على عقب ومن الصعب التلاعب به في هذه الحالة، خاصة وكأن شباب الثورة لا يقول إلا حكمة، ولا يذيع إلا حقيقة.
كانت مشكلتي، وأظنها مشكلة الكثير من المشاهدين، ليس رفض الثورة، فالأغلبية كانوا يظنونها ضرورية، ولكن البحث عن إجابة على أسئلة كلها تدور حول اتجاه الثورة. فالمعضلة الجارية على كل الثورات العربية الآن هي أنها بلا دليل، ولا كتاب، ولا «مانفستو» يقول لنا ما الذي سوف يجري في المستقبل القريب أو البعيد أو أي مستقبل كان.
الثورات الكبرى التي عرفها العالم كان لها كتاب من نوع ما، يقودها، ويرشد خطواتها، ويستطيع الخارجون عنها أن يعرفوا المصير الذي يذهبون إليه. كان كتاب «العقد الاجتماعي» للمفكر الفرنسي جان جاك روسو هو «إنجيل» الثورة الفرنسية؛ وقبلها كان كتاب المفكر الإنجليزي جون لوك «أطروحة في الدولة المدنية»، بالإضافة إلى كتابات أخرى لمونتسكيو هي التي شكلت عقل الثورة الأميركية. أما الثورة البلشفية فقد كان البيان الشيوعي - المانفستو - الذي وضعه كارل ماركس، وكتابات لينين هي الهادية لها، مع الثورات الشيوعية الأخرى التي جرت في الصين أو فيتنام أو كوريا - الشمالية بالطبع - وفي دول أخرى في العالم ظنت أنه يمكن إقامة الجنة على الأرض بفضل هذه الكتابات. أما الثورة الإيرانية فقد كانت كتابات الخميني عن نظرية ولاية الفقيه هي التي شكلت بوصلة السياسة في طهران.. وهكذا.
ثوار العرب اليوم لا نعرف الكثير عن الكتاب الذي يهديهم، فالطليعة منهم اعتمدت على الـ«فيس بوك» والشبكة العنكبوتية وفيها الكثير عن العولمة والديمقراطية. ولكن الديمقراطية مجرد إجراءات سياسية لنقل السلطة في النهاية، اعتمادا على إرادة الأغلبية التي تصير ممثلة للإرادة العامة للمجتمع. المعضلة هنا أن الديمقراطية وحدها لا تكفي ولا بد من خلطها بالليبرالية حتى يصير لها محتوى سياسي واجتماعي متكامل. ولكن ثوار اليوم ليسوا كلهم ليبراليين، وبعضهم يخلط الديمقراطية بالإسلام، أو بالاشتراكية، أو بطريقة ما لإدارة البلاد عن طريق الفوضى. وفي مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بـ«الأهرام» اقترح بعضهم ضرورة انتخاب مدير المركز، وحينما رأى البعض الآخر أن ذلك يخالف القواعد التي تجعل المدير له طبيعة فنية وليست سياسية كانت الحجة هي أنه طالما كان ممكنا الإطاحة برئيس الجمهورية فلماذا لا يطاح برئيس المركز. على أي حال جرت انتخابات على الانتخابات، وتوقفت العملية عند هذه النقطة. ولكن مثل هذا التعقل الذي جرى في مركز يعمل فيه من برع في البحث السياسي لم يحدث في قنا حيث طرحت الجماهير «المليونية» نفس الحجة وهي إذا كانت الجماهير المليونية لها الحق في الإطاحة برئيس الدولة، فلماذا لا يكون لها الحق في الإطاحة بمحافظ المحافظة.
سقط الحاجز بين القانون والحرية، وبين النظام والدولة، وبات ممكنا أن يحدث كل شيء طالما رأت الجماهير ذلك حتى لو أضاع ذلك مبرر وجود الجماهير في دولة واحدة تمثل منظومة سياسية وقانونية تنظم حياة شعب على قطعة جغرافية بعينها.
ولا يصور القضية كلها بنقاء مثل ذلك المشهد الذي اجتمعت فيه ثمانية تنظيمات سياسية تونسية عرفت نفسها بأنها وسطية، ومن ثم فإنها تريد تشكيل كتلة مرجحة في الانتخابات العامة التي سوف تأتي. وبعد مداولات ومناقشات ومحاورات وساعات طويلة من الأخذ والعطاء وصلت الأحزاب «الوسطية» إلى أن هناك حاجة إلى مزيد من التشاور والحوار والنقاش والتداول!!
لم يكن هناك لا كتاب، ولا «مانفستو»، ولا دليل، كانت هناك رغبة في التخلص من نظام ديكتاتوري خانق، وتم التخلص منه بالفعل، وبعدها صار السؤال: ثم ماذا بعد؟ المعضلة التي يواجهها الثوار فجأة هي أنهم وإن كانوا على حق في أن الاستبداد سبب ضمورا في المجتمعات، وعطل تطورها لسنوات، وخنق الحريات العامة فيها، وجعل الحياة جحيما لكل من خرج على الصف أو الرؤية الجماعية للزعيم أو القائد أو جماعته أو حزبه؛ إلا أن مشكلات مجتمعاتهم أولا أعمق من كل ذلك، فلم تكن هناك صدفة أن كل هؤلاء الطغاة بقوا لفترة طويلة، بل إن هناك ظروفا موضوعية أدت إلى هذه النتيجة؛ وثانيا أن المجتمعات بعد الاحتفال بالثورة ونشر الأعلام والحديث عن الوحدة الوطنية والإعجاب الإقليمي والعالمي بالثورة فإن الشعوب لها مطالب يومية في الغذاء والكساء والمأوى والعمل والتطور والتقدم، وهناك قبل كل ذلك وبعده ذلك الغطاء الذي ينكشف عن مشكلات ومعضلات أزلية حاولت نظم الاستبداد إخفاءها بالعنف والقهر، وإذا بها تنفجر في وجه الثوار وفي وقت الحرية هذه المرة.
هنا مرة أخرى لا دليل ولا كتاب ولا «مانفستو»، وإنما مجموعة من العناوين الإلكترونية، أو الهداية بالكتب القديمة لجماعات فاشية فشلت في التغيير على طريقتها في السابق، وهي الآن تريد أن تحملها الثورة إلى السلطة حيث لم يجد الثوار دليلا أو كتابا أو نظرية أو تطبيقا أو مثالا يتبعونه، ولا شيء سوى «غوغل»!
|
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق