يونان إدوار: "الاقتصاد المصري" سكتة قلبية مؤقتة أم مخاوف غير مبررة؟
يعاني الاقتصاد المصري 3 مشكلات رئيسية، وهي متتابعة الحدوث، وعلى متخذ القرار في مصر مواجهتها بخطوات استباقية قوية وعميقة وواضحة؛ فالانتظار في تبني تلك الخطوات سيجعل عدد تلك المشكلات في حالة تزايد وتعقيد.
بداية، يجب أن يكون واضحا أن ما تردده بعض المصادر عن قرب إعلان إفلاس الاقتصاد المصري أمر مستبعد الحدوث للكثير من الأسباب، منها: أن الاقتصاد المصري كان في عنفوانه قبل أحداث ثورة يناير (كانون الثاني)؛ حيث شهد النمو الاقتصادي معدلات مرتفعة وصلت إلى 7%، كما ارتفعت قبل الثورة معدلات نمو الاستثمارات الأجنبية والسياحة والصادرات وغيرها من مكونات الاقتصاد المصري، بالإضافة إلى أن البنوك المصرية متخمة بأموال المودعين المصريين؛ حيث وصلت معدلات الفائدة إلى 9%، وهو الأمر غير الموجود في أي دولة أخرى في العالم؛ حيث لا يزيد معدل الفائدة على 2% وبالتالي فنحن لسنا أمام مشكلات اقتصادية مزمنة أو هيكلية، لكننا أمام "توقف مفاجئ للاقتصاد" أو بمعنى آخر سكتة قلبية للاقتصاد المصري.
ولكي تكون الرؤية واضحة للموقف الكلي للاقتصاد المصري والمشكلات التي ستواجهه خلال العامين المقبلين على الأرجح، وهي:
أولا: السكتة القلبية للاقتصاد المصري، كما ذكرت، بعد التوقف المفاجئ لمعظم مكونات الناتج المحلي مثل السياحة والاستثمارات والتصدير. ثانيا: الخوف من قيام المسؤولين المصريين بتبني سياسات من شأنها الدخول في مراحل التقشف والانكماش ثم الكساد الكلي، وهو ما نشبهه بالدخول في حالة غيبوبة تامة، وهذه هي المشكلة الأكثر خطورة التي يجب تفاديها بكل الوسائل. ثالثا: لا يمكن إغفال أمر في غاية الأهمية، وهو الثورة الاقتصادية المصاحبة للثورة السياسية التي حدثت في مصر، وبمعنى آخر حتمية التعامل مع السبب الرئيسي للثورة؛ لأنه على الرغم من تحقيق الاقتصاد المصري معدلات نمو كبيرة فإن معظم المصريين كانوا لا يشعرون ولا يستفيدون بمثل هذه المؤشرات الاقتصادية، أي أن الدولة لا بد أن تقود ثورة اقتصادية نحو توزيع عادل للدخول وخفض معدلات الفقر، وهذا أصبح أمرا حتميا بالقوة الثورية التي يشهدها الشارع والتي لا يمكن تجاهلها.
إن الاقتصاد المصري بعد الثورة شهد، ولأول مرة في تاريخه، الحديث عما يعرف بـ"التوقف المفاجئ"؛ لذا لن نجد الكثير من النخبة الاقتصادية سواء أكانوا الأكاديميين أم المسؤولين أم رجال الأعمال في مصر لديهم خبرة التعامل مع هذه الظاهرة الجديدة. فتوقفت السياحة بالكامل، وبطبيعة الحال توقف تدفق الاستثمارات، سواء الأجنبية أو المحلية، وكذا توقف التصدير ثم بدأ يعود بمعدلات لا تُذكر، وفي مقدمة هذا كله انهيار البورصة ثم توقفها وعودتها في ظل غياب ثقة المتعاملين وقلقهم المتزايد من الأوضاع في مصر. ولإعادة الحياة للاقتصاد المصري يجب على الدولة القيام بعملية صدمات كهربائية سريعة وقوية ومتتابعة، وبطبيعة الحال فإن هذا يتطلب قرارات تتسم بالشجاعة والعزم والسرعة الفائقة.
فمن الأمور التي تحتاج إلى السرعة والشجاعة ما يعرف بـ"التصالح مع رجال الأعمال المستفيدين من النظام السابق"، وهذا الموضوع لا يحتاج من متخذي القرار الكثير من التفكير أو الحياء للخروج للرأي العام بإعلان مبادرة في هذا السياق، فلن يكون متسقا مع رغبة الدولة في إنعاش الاقتصاد، في حين أن الذين يديرون 80% من الاقتصاد الوطني إما في حالة هروب، مطاردين من العدالة، وإما داخل السجون قيد التحقيقات. ومن الأمور التي تحتاج إلى العزم والسرعة الفائقة لعودة تدفق السياح إلى مصر هو إطلاق مبادرة «السياحة الآمنة»، وهي عودة السياحة للمنتجعات والمدن الخاصة مثل شرم الشيخ والغردقة ومرسى علم والأقصر وأسوان وغيرها من الأماكن البعيدة عن المخاطر، التي يسهل أيضا تأمينها، وهي مبادرة يجب أن تدفع بها وزارة السياحة بكل ثقلها وتوفر التمويل اللازم لتنفيذها. وكذا ينبغي التعامل مع كل أدوات وآليات تشجيع التصدير من صندوق مساندة الصادرات ومركز تحديث الصناعة والمجالس التصديرية المتخصصة للدفع بالصادرات لمعدلاتها الطبيعية وفي الأسواق المتاحة حاليا، وهنا تأتي الأهمية القصوى لدور المكاتب التجارية المصرية بالخارج وأهمية دعم خططها ووجودها في الأسواق المستهدفة للصادرات المصرية.
لا يمكن لأي دولة يتعرض اقتصادها للتوقف التام، مثلما حدث في مصر، الخروج من أزمتها من دون مساندة الشركاء الاستراتيجيين القادرين على ذلك، وهو الأمر الذي يتطلب سرعة الدعوة لعقد اجتماع بالقاهرة لوزراء خارجية ووزراء مالية شركاء مصر الدوليين للمساندة في إنعاش الاقتصاد المصري، وأهمهم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية ومجلس التعاون الخليجي والمؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولعل مبادرة الرئيس الأميركي أوباما تجاه دعم الاقتصاد المصري مقدمة يجب البناء عليها مع بقية الأطراف الدولية والمقرر الاجتماع بهم خلال اجتماعات مجموعة الـ8 بفرنسا في مايو الحالي. وكما هو معروف، فكلما تأخر تحرك القاهرة في هذا الاتجاه كانت ردود الفعل الدولية فاترة وغير معنية بأمور قد تبدو لها غير عاجلة.
في هذا السياق، يجب على متخذي القرار التوجه بالنظر والتحرك لثلاث عواصم عالمية كفيلة بضخ التمويل اللازم لإنعاش الاقتصاد المصري من خلال الاستثمار في صناديق خاصة بمصر هي بأهمية الترتيب: بكين والرياض ثم برلين، تلك العواصم في حالة بحث مستمر عن الصناديق والسندات والأذون المعروضة عالميا بهدف التخلص من الفوائض الكبيرة التي تمتلكها والتي يمثل الاحتفاظ بها عبئا اقتصاديا، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن فوائض أموال الصين والسعودية فقط تمول أكبر عجز مالي في العالم ولمدة 20 عاما متواصلة للولايات المتحدة الأميركية وبأسعار فائدة تقترب من الصفر. هذا الأمر يحتاج إلى تحرك سريع من وزارة المالية وإدارة البورصة والمختصين لطرح محافظ مالية مبتكرة وذكية.
وننتقل للتحدي الثاني الذي قد يواجهه الاقتصاد المصري، وهو الخوف من قيام المسؤولين بإجراءات تتماشى مع الجو العام الثوري الذي تعيشه مصر حاليا نحو إجراءات تقشفية تؤدي إلى الركود الاقتصادي وانهيار سوق العقارات، ومنه إلى الكساد الكلي الذي يعتبر المشكلة الأخطر التي قد تواجه مصر خلال عام؛ لذا يجب على الدولة القيام بـ«حزمة لتحفيز الاقتصاد» تبدأها بعدم التفكير في أي إجراءات تقشفية حتى لو كانت تمول استثماراتها بالقروض، كما يجب التوسع في الرهن العقاري وتبسيط إجراءاته، وتقليل أسعار الفائدة، والتوسع في القروض الممنوحة للشركات والمصانع المصرية لتحفيز التوسعات والاستثمارات الداخلية. وقيام الدولة بعدد من المشاريع الاستثمارية كالبنية الأساسية. ويجب ألا تكون زيادة العجز في الموازنة العامة أو الاقتراض المفرط هاجسا لدى متخذ القرار في هذا التوقيت؛ لأن نتائج التقشف ستكون بمثابة الدخول في نفق مظلم من الركود الذي يستغرق على الأقل 5 سنوات للخروج منه.
ويبقى التحدي الأساسي الذي خرجت من أجله الجماهير الثائرة التي أسقطت النظام، وهو الأولوية غير المرئية من الحكومة المصرية المكبلة بانفلات أمني فوضوي ومصالح سياسية متصارعة وبقايا نظام ينازع، وباقتصاد قوي البنيان، لكن بلا حراك، هذا كله جعل الدولة تنسى أنه على الرغم من تحقيق الاقتصاد معدلات نمو مرتفعة، فإن الناس خرجت في الشوارع تطالب برغيف العيش والعدالة الاجتماعية، وهو الأمر الذي يتطلب من الدولة، والدولة وحدها، القيام بثورة اقتصادية واجتماعية تتمثل في وضع خطط عاجلة لعدالة توزيع الدخل وتخفيض نسب الفقر والبطالة، وللوصول إلى هذه الأهداف يجب التحرك الفوري لإصلاح النظام الضريبي ليكون تصاعديا، وهو الأمر المعمول به في جميع دول الرفاهية والعدالة الاجتماعية بحيث يتنازل الأغنياء عن جزء من دخلهم لغير القادرين، التوسع في التأمين الصحي ليشمل جميع المصريين، خاصة غير القادرين، تقديم خدمة قروض جديدة عائلية بفوائد ميسرة لأهداف اجتماعية مثل الزواج أو الإنجاب أو الموت المفاجئ لمحدودي الدخل وبضمانات ميسرة، تيسير حصول الشركات الصغيرة والأفراد على قروض للبدء في أنشطة اقتصادية صغيرة، وهناك مئات البرامج المعمول بها في جميع أنحاء العالم، لكن عندما نتحدث عن مثل تلك البرامج يجب أن يكون واضحا في أذهاننا أننا نتقدم ببرامج حقيقية وسخية وميسرة وواضحة وفاعلة، يجب أن يعلم متخذو القرار أننا لسنا بصدد تبني برامج للدعاية أو لامتصاص غضب الناس، بل إننا ننفذ برامج من شأنها زيادة دخل الأفراد، المحافظة على الطبقة المتوسطة وهي عماد كل المجتمعات، وتقليص عدد الفقراء والمهمشين.
ويبقى التحدي الأساسي أمام الدولة حاليا وهو الرؤية الثاقبة لتلك المشكلات والحلول النافذة لها وقبل هذا كله الشجاعة في طرحها وتنفيذها في ظل جو يموج بالغضب والملاحقات القانونية وإعلام لا يرحم وتطلعات تفوق الواقع.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط