لماذا فشلنا مرة أخيرة؟!
بقلم: د.عبد المنعم سعيد
1052
لقد آن الأوان لكي تصل هذه السلسلة من المقالات إلي نهايتها, ومعذرة إذا كنت قد قطعتها الأسبوع الماضي لكي أحكي عن تركيا, ولم يكن ذلك هو السبب الوحيد للقطيعة علي أي حال.
ولكن ما كان مقصودا منذ البداية أن نحاول استقصاء أسباب وقوانين تلك الحالة من الفشل الوطني للوصول بالبلاد إلي مكانة الدول المتقدمة منذ وضع محمد علي الكبير لبناتها الأولي منذ أكثر من قرنين. وكان فيها أيضا تتبع الفشل الشخصي في المساهمة في إصلاح البلاد مع مجموعة من المصلحين حاولوا قدر الجهد والطاقة أن يحلوا المعضلة المصرية في التناقض بين التغييرات الجارية في مصر بالفعل نتيجة جهود داخلية أو تغيرات خارجية في النظام العالمي أو التجديد التكنولوجي ونظامها السياسي الذي ظل دائما عاجزا عن استيعاب ذلك التغير, ومن ثم أدي إلي ردة أو نكسة أو تراجع.
ومن السهل بالطبع في إطار المساجلات الجارية اتهام هؤلاء المصلحين بأنهم فعلوا ما فعلوا لمآرب شخصية, ولكن الثابت أن من أعنيهم بالوصف كانوا جميعا من المحققين لذواتهم في مجالات شتي, ولم يكونوا في حاجة إلي إضافة المزيد من منصب أو جاه. ومع ذلك فإن هؤلاء كان لهم فشلهم الخاص في الرؤية لما يجري في المجتمع من تغيرات, بل إن ذلك يضيف قانونا جديدا للمسيرة المصرية, بالإضافة إلي قانون الصدام بين منتجات الإصلاح والنظام السياسي, والعجز الكبير عن المراجعة للتجارب السابقة والبناء عليها, والنزعة الكبيرة للبدء من جديد. وأخيرا يضاف إلي ذلك الفشل في قراءة المتغيرات التي تقود إلي الثورة والبداية من جديد.
وحتي لا أحمل أحدا عبئا فإن تجربتي الشخصية كانت شاهدة علي هذا الفشل حينما شاركت في برنامج العاشرة مساء الذي تديره الأستاذة مني الشاذلي قبل أسبوع واحد من ثورة الخامس والعشرين من يناير. كان هناك سؤالان يحضران في هذا السياق, أولهما جاء في وسط البرنامج وكان عما إذا كانت الثورة في تونس قابلة للتكرار في القاهرة, وثانيهما كان آخر الأسئلة وهو هل لا تري تشابها علي وجه الإطلاق بين الحالة التونسية والحالة المصرية. أو هكذا أذكر كيف كانت الأسئلة, ولكن ما أجبت به كان بشكل ما متناقضا فكانت إجابتي علي السؤال الثاني هي أن هناك بالتأكيد أوجه تشابه بين البلدين من حيث نمو الطبقة الوسطي وتناقضها مع النظام السياسي وما لم نحل هذا التناقض من خلال جهود سياسية فإن ذلك سوف يفضي إلي المزيد من القلاقل. أما إجابتي علي السؤال الأول فقد كانت أكثر تفصيلا وجري استبعاد التشابه بين الحالة في تونس والأوضاع في مصر استنادا إلي حجج عدة.
ولأنه ـ كما يقال ـ لا يقع إلا الشاطر, فإن دارسا مثلي للأزمات الدولية كان يعرف أن المفاجأة الاستراتيجية في الحرب تحدث عندما نكون علي علم تام بكل الحقائق والمعلومات, ولكننا مع ذلك نعجز عن تفسيرها التفسير الصحيح, وكان ذلك هو ما حدث في إسرائيل والولايات المتحدة في حرب أكتوبر3791, كما جري لواشنطن عند الهجوم الياباني علي بيرل هاربر. وإذا كانت المفاجأة الإستراتيجية في العلاقات الدولية لها علاقة بالحرب, فإن هذه المفاجأة في السياسة الداخلية تكون في حدوث الثورة, حيث كانت كل أسبابها واضحة للجميع, بمن فيهم الثوار أنفسهم, ولكنهم لم يتصوروا أبدا حدوثها. وفي حوار لي مع واحد من المشاركين في الثورة منذ بدايتها قال إن أقصي أحلامنا كانت خروج عشرة آلاف من المصريين, أما رقم الخمسين ألفا فقد كان متصورا حدوثه عند نهاية العام أو مع بداية العام القادم.
كان أول الأسباب التي ذكرتها في البرنامج هو أن عدد المصريين قد صار ثمانين مليونا, وفي هذا العدد الكبير ـ الذي يختلف عن تونس ذات العشرة ملايين نسمة ـ فإن المصالح متنوعة بحيث يصعب إلتقاؤها علي عمل ثوري شامل. كانت المعلومات صحيحة عن العدد, ولكن التفسير كان قاصرا, لأن الغضب الشعبي كان جامعا ومن ثم كانت الملايين سلاحا في يد الثوار لفرض مطالبهم وليست عبئا عليهم بسبب تنوعها. ومن الغريب أنني وزميلي وصديقي أيضا الدكتور محمد عبدالسلام الذي كان يعمل معي في مجلس إدارة الأهرام آنذاك صممنا طريقة لقياس الغضب الشعبي في المحافظات المصرية المختلفة وكنا نوقع هذا الغضب علي خريطة مصر, وحيث كان الغضب حادا جعلنا ذلك باللون الأحمر, أما إذا لم يكن كذلك فقد جعلناه باللون الأخضر. وحتي شهر سبتمبر0102 كان اللون الأخضر غالبا, ولكن فجأة وبعد الانتخابات البرلمانية انقلب اللون الأخضر إلي أحمر وبسرعة كبيرة حتي صارت معظم محافظات الجمهورية كذلك تقريبا في الأسبوع السابق علي الثورة. وكان تفسيرنا ساعتها ليس أن البلاد علي وشك ثورة, ولكنها في سبيل اتساع المطالب الفئوية والتوتر الطائفي عقب حادث كنيسة القديسين.
كانت المعلومات موجودة, ولكن التفسير كان خاطئا, وكان كذلك ضمن ما قلته فارقا بين مصر وتونس وهو الثورة الإعلامية المصرية التي جرت خلال الأعوام الأخيرة والتي يجري الاعتراف بها بخجل هذه الأيام. فقد كان تفسيري ساعتها أن هذه الثورة, بالإضافة إلي الانفتاح الإلكتروني غير المسبوق والذي نجم عن رفع الجمارك عن أجهزة الكمبيوتر ومنح الدخول علي الإنترنت مجانا, قد خلق طاقة تنفيس لغضب الشعب المصري لم تكن متاحة في تونس. ولكن الواقع في مصر كان قد تعدي مرحلة التنفيس وباتت الثورة الإعلامية المصرية من الجرأة والقوة بحيث نجحت في نزع الشرعية عن النظام كله, ولم يكن ذلك مقصورا علي أجهزة الإعلام المستقلة والخاصة والحزبية بل كان أيضا في الإعلام القومي بأشكاله المختلفة حينما وجد هذا الإعلام أنه سوف يتم تهميشه في المنافسة ما لم يقم بمجاراة الإعلام الخاص فانتهي الأمر إلي نزع الشرعية عن النظام بحيث سقط خلال ثمانية عشر يوما فقط غير مأسوف عليه.
كان اتساع مصر وتنوع أقاليهما أحد الأسباب التي ذكرتها في تلك المقابلة التليفزيونية, فلم يكن متصورا أن يكون صعيد مصر مثله مثل أهل سيناء, وهؤلاء لم يكونوا مثل الكتلة السكانية المصرية الكبري في الدلتا والقاهرة والإسكندرية. ولكن هذا التفسير كان خاطئا هو الآخر, فصحيح أن أقاليم مصر كانت متنوعة ومختلفة, ولكن كان لكل منها أسباب غضبه ورفضه للنظام القديم, ورغم كل ما جري من تحسن في مدينة الإسكندرية خلال العقد الماضي فقد كان الغضب فيها كاسحا بسبب التوتر الطائفي وما كان متصورا من فساد, ورغم غناء المصريين لأهل سيناء كل عام إلا أنهم كانوا يعانون الإهمال, ولم يفلح أحد في إقناع أهل الصعيد أن دورهم قد جاء في الاهتمام العام, وهكذا. كان الغضب شاملا إذن وزاد عليه أن التقدم الذي جري في وسائل المواصلات من طرق جعل الانتقال والتواصل بين الأقاليم ممكنا وسهلا وكافيا لنقل البشر والأفكار والتنسيق بين الثوار, حتي أنه بعد قطع الاتصالات لم تكن هناك مشكلة في انتقال المعلومات.
ظننت أيضا, وكان ظني هو ما قلته, أن اتساع الطبقة الوسطي في مصر يعطي النظام عاملا من عوامل الاستقرار الذائعة في الأدب السياسي. وبالفعل قد كان اعتقادي في أن حجم الطبقة الوسطي قد اتسع صحيحا وله دلائل كثيرة كمية وكيفية بل إنها ظهرت في الثورة نفسها خاصة خلال الأيام الثلاثة الأولي منها, حيث كانت ثورة الطبقة الوسطي بامتياز. ولكن هذه الطبقة الوسطي لم تكن محافظة بل كانت ثورية وغاضبة علي النظام القديم لأسباب عديدة كان أهمها الفساد البيروقراطي الذي وقف حائلا بين الطبقة الوسطي والتقدم الاقتصادي الذي احتكرته قلة, وضيق النظام السياسي وعجزه عن التطور الديمقراطي فضلا عن أن احتمالات التوريث الذائعة في ذات الوقت, خلقت طاقة من الغضب الثوري الذي لم يلبث أن تفجر في ميدان التحرير شاهرا مواهب هائلة حققت ما لم تحققه جماعة ثورية أخري كانت لا تزال تبشر بثورة الجياع فإذا بالثورة تأتي ليس علي أسنة الرماح وإنما من علي صفحات الفيس بوك.
كنا نعلم, وهذا ما قلته, أن الثورة التكنولوجية تعطي الشباب طاقة تكفي لابتعاده عن السياسة, ولكن الحقيقة هي أنها قربته من السياسة. وقبل ثلاثة أيام من تنحي الرئيس مبارك, وفي اجتماع مع نائب الرئيس السيد عمر سليمان عقده مع مجموعة من الصحفيين في قصر العروبة جري السؤال عما إذا كان يعرف بما حدث, وكانت إجابته قاطعة نعم, ولكننا اعتقدنا أن ذلك سوف يولد مظاهرة قدرها مائة ألف متظاهر أي والكلام من عندي مظاهرة احتجاج إضافية كبيرة قليلا ولكنها لا تعرف المليونية.
كانت المعلومات متاحة, ولكن التفسير كان خاطئا, ولم يكن ذلك فشلا للمصلحين فقط, بل لغيرهم أيضا. وليس ذلك تخلصا من المسئولية بل هو تأكيد لها حيث تكون المسئولية في المراجعة, وفي حل التناقض بين الإصلاح والنظام السياسي, والأهم: طرح السؤال ذاته علي الأجيال القادمة التي تقود البلاد الآن وسوف تتحمل المسئولية التاريخية عما إذا كانت سوف تقودها إلي النور أو إلي ظلام دامس.
كان ما سبق محاولة واجتهاد من خلال قراءة للماضي قلت فيها بعض ما عرفته, وآن الأوان الآن بعد أن طرحنا السؤال لماذا فشلنا؟ أن نطرح السؤال: كيف ننجح؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق