أسباب أخري للقلق؟ بقلم: د.عبد المنعم سعيد |
تركت القاهرة في رحلة قصيرة إلي الولايات المتحدة دامت أسبوعا, وقبل السفر كنت قد نوهت في مقال نشر في أهرام يوم الاثنين14 يونيو الجاري |
عن وجود أسباب تدعو للقلق علي الأحوال في بر مصر كان بعضها يخص نتائج انتخابات مجلس الشوري, وبعضها الآخر العلاقات المتنامية بين الدكتور محمد البرادعي وجماعة الإخوان المسلمين, والبعض الثالث نتيجة أفعال تقوم بها السلطة القضائية باتت تهدد من ناحية الفصل بين السلطات في الدولة, ومن ناحية أخري استقلال القضاء نفسه حيث بات القضاء يتصرف باعتباره جهة سياسية وليست قضائية. وكان هذا الأمر الأخير مقلقا بصورة خاصة لأن قضاء مصر العادل كان ولا يزال هو مناط الاتزان في الحياة السياسية والاجتماعية وحتي الاقتصادية المصرية. وفي كل استطلاعات الرأي فإنه لا يزال الجهة التي تحصل علي أعلي درجات الاحترام والثقة من الجمهور العام. ولكن أثناء وجودي في الولايات المتحدة فإن مصادر القلق مجتمعة أنتجت مصدرا آخر للقلق, وهو أنها مجتمعة خلقت صورة غير حقيقية عن مصر وأحوالها, حيث تختفي صورة سريان الحياة المصرية علي حالها مع توسعاتها الاقتصادية والديموغرافية, كما لا يظهر أبدا أن كل ما تعانيه مصر من قلق هو موضع بحث المجتمع ونقاشه وتفاعله بأشكال مختلفة. وعندما تضاف إلي ذلك واقعة دامية مثل تلك التي تعرض لها المواطن خالد سعيد في الإسكندرية فإن السمعة الدولية لمصر كلها تصبح في خطر شديد. ومن ناحيتي فإنني أؤيد تماما كل ما جاء في مقال الأستاذ مكرم محمد أحمد بخصوص هذا الموضوع الذي سوف أعود له مرة أخري. ولكن ما أود تسجيله هنا أن صورة مصر غير الحميدة هي التي تبقي منقولة إلي الساحات العالمية بينما يتم استبعاد كل ما عداها, وليس ذلك تقليلا من أسباب القلق ولكنه محاولة لوضعه في إطاره الصحيح الذي يسمح بالتعامل مع هذه الأسباب بالحكمة والرؤية اللازمة. ولا يوجد لدي شك أن موضوع السلطة القضائية هو أهم الموضوعات التي تحتاج النظر خاصة بعد الأزمة بين المحامين والقضاة التي وضعت النظام كله في مأزق كبير بين التدخل غير الواجب حتي تبقي السلطة القضائية علي استقلالها, والسكوت وترك المنازعات تسير في طريقها, فيدفع المجتمع كله ثمنا باهظا لأهواء باتت فائرة. ولا شك أن هناك مشكلة خاصة بالقضاء في مصر, حيث تشير المؤشرات إلي أن ثمة حالة من التدخل الملحوظ من جانب القضاء في العديد من الاختصاصات التي لا تقع ضمن صلاحياته وسلطاته, مثل قضية الأمن القومي علي سبيل المثال المنوطة بالعديد من الأجهزة السيادية الأخري وعلي رأسها القوات المسلحة. والأمثلة علي ذلك متعددة, فقد أصدرت محكمة القضاء الإداري بدرجتها الأولي في19 مايو2009 حكما يلزم وزير الداخلية بعرض أمر المصريين المتزوجين من إسرائيليات وأولادهم علي رئيس الوزراء لاتخاذ إجراءات إسقاط الجنسية عنهم, إلا أن وزارتي الداخلية والخارجية طعنتا في هذا الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا استنادا إلي أن هذا القرار من اختصاص مجلس الشعب وليس القضاء. وقد أيدت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة, في5 يونيو2010, الحكم الذي أصدرته محكمة القضاء الإداري, وقضت بضرورة عرض كل حالة علي مجلس الوزراء علي حدة من أجل البت فيها. وقد واجه هذا القرار انتقادات عديدة من جانب اتجاهات وتيارات مختلفة اعتبرت أن مجلس الدولة فرض نفسه مدافعا عن الأمن القومي للبلاد بدلا من القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأخري. كذلك أصدرت المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة حكما نهائيا بإلزام الكنيسة بإصدار تصاريح الزواج الثاني في حالة الطلاق, وهو ما يؤشر إلي احتمال نشوب أزمة بين الدولة والكنيسة, لاسيما أن الحكم قوبل بالرفض من جانب البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الذي أكد أن لا أحد يستطيع دفع الكنيسة إلي مخالفة تعاليم الإنجيل, داعيا القضاء إلي عدم التدخل في الشئون الدينية, محذرا من يتزوج مدنيا بالحرمان من العودة إلي الكنيسة ومهددا بـ شلح أي كاهن يقدم علي تزويج قبطي مطلق. كما رفض المجمع المقدس ـ في اجتماعه العاجل والاستثنائي الذي عقد في8 يونيو2010 ـ الحكم بتوقيع82 أسقفا من أعضائه. فضلا عن ذلك, قضت المحكمة الإدارية العليا, في30 مارس2010, بإلزام الحكومة بوضع حد أدني لأجور جميع العاملين بالدولة بما يتناسب مع نفقات المعيشة ويحقق توازنا بينها وبين الزيادة الكبيرة في الأسعار, وذلك في الدعوي التي أقامها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية واختصم فيها رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء بصفتيهما. وتضمنت حيثيات الحكم انتقادات للحكومة يأتي علي رأسها مخالفتها مواد الدستور وعدم مراعاتها البعد الاجتماعي بعد تغيير نظام الدولة من الاشتراكية إلي الرأسمالية, مشيرة إلي أن الامتناع عن تحديد الحد الأدني تعطيل لأحكام الدستور. هذا الدور الجديد الذي بدأ يضطلع به القضاء والذي جعله في بعض الأحيان يحل محل أجهزة أخري في الدولة, شهد انقساما حادا بين اتجاهات عديدة داخل الدولة, كانت قضية العلاقة بين الدين والدولة أحد أهم محاور التجاذب فيما بينها. ففي حالة الحكم الخاص بالزواج الثاني, انقسمت الآراء إلي ثلاثة اتجاهات: الأول, رفض تدخل القضاء في شئون الكنيسة معتبرا أنه تسبب في مشكلة عندما تدخل فيما لا يعنيه وعارض شريعة الله التي هي أولي بالاتباع من شريعة البشر. والثاني, اعتبره حكما عاديا أصدرته المحكمة التي ردت علي دعوي من مواطن مسيحي متضرر من الكنيسة التي لا تعتبر فوق القانون, كما أن المحكمة ـ في رؤية هذا الاتجاه ـ لم تصدر القانون لأنها محكمة مسلمة, بل لأنها تحاول تنفيذ القانون الممثل في هذه القضية بلائحة الأحوال الشخصية للأقباط الصادرة عام1938. أما الاتجاه الثالث, فتبني موقفا وسطا, حيث رأي أن الحكم يمثل نزاعا قانونيا وليس سياسيا, وبالتالي فإن الآلية المثلي للتعامل معه هي اتباع الآليات القانونية مثل اللجوء إلي المحكمة الدستورية العليا للفصل في الحكم. هذه التطورات المتلاحقة في مجملها ألقت من جديد مزيدا من الضوء علي مبدأ الفصل بين السلطات, كأحد أهم المبادئ الحاكمة للتفاعلات بين السلطات المختلفة في الدولة والراعية للحقوق والحريات المكفولة للمواطنين بمقتضي الدستور. وقد ظهر هذا المبدأ عندما وضع الإغريق نموذجه الأول في الدساتير التي نظمت مدنهم, لكنه اكتسب أهمية ووجاهة خاصة مع بداية عصر التنوير في أوروبا, علي يد المفكر الفرنسي البارون دي مونتسكيو, الذي أكد أن الفصل بين السلطات هو الضمان الوحيد لحرية الإنسان وتأمين حياته وممتلكاته لأنه في حالة اتحاد السلطات أو تغول واحدة علي الأخري فإن ذلك يقضي علي الحريات المتاحة التي يحل محلها الاستبداد. لكن هذا الفصل يرتبط بمعايير معينة لضمان تطبيقه بطريقة صحيحة وفعالة هي: التوازن بين هذه السلطات بحيث لا تستطيع أي منها التعدي علي صلاحيات الأخري, ورقابة كل منها علي الأخري لضمان عدم استبداديتها. ووفقا لمونتسكيو فإن سلطات الدولة تتوزع علي أقسام رئيسية ثلاثة هي: السلطة التنفيذية التي حصر اختصاصها في الشئون الخارجية فقط, والسلطة التشريعية المختصة بعمل القانون, والسلطة القضائية المكلفة بتطبيق القانون. ويقول مونتسكيو في كتاب روح القوانين الذي صدر عام1748 ـ إن كل إنسان يمتلك سلطة معينة تدفعه إلي محاولة الإفراط في استخدامها, بشكل يمكن أن يؤدي إلي التعدي علي حقوق وحريات الآخرين, وهو ما يفرض ـ وفقا لهذه الرؤية ـ وضع حدود واضحة للعلاقة بين السلطات والأفراد ضمانا للحريات. ورغم أن مبدأ الفصل بين السلطات واجه انتقادات من قبل بعض المفكرين الذين اعتبروا أنه كان وسيلة لانتزاع السلطة التشريعية من الملك أو الحاكم, ومن ثم نادوا بعدم العمل به بعد تحقيق الهدف المنشود منه, إلا أنه حظي بانتشار واسع بداية من النصف الثاني من القرن الثامن عشر, حيث أخذت به دساتير كثير من دول العالم. وقد كانت مصر من أوائل دول العالم التي تبنت الأنظمة الحديثة في السلك القضائي, حيث شهدت تأسس نظام المحاكم المختلطة عام1875 وتلاها المحاكم الأهلية عام1883 وقد جعلت مصر القضاء سلطة مستقلة بمقتضي دستور1923 وأضافت علي ذلك تأسيس محكمة النقض عام1931 ثم مجلس الدولة عام1946 وإنشاء المحكمة العليا عام1969 التي أصبحت بعد ذلك المحكمة الدستورية العليا, وإلغاء القضاء الشرعي والمجالس الحسبية. وقد دخل القضاء في بعض الأحيان في أزمات متعددة مع السلطة كان أشهرها الأزمة التي اندلعت عام1969 التي عرفت بـ مذبحة القضاة عندما نشب خلاف حول إدماج القضاة في الاتحاد الاشتراكي, وعلي خلفية ذلك بذل نادي القضاة جهودا حثيثة للحيلولة دون تحقيق ذلك, وهو ما أدي إلي صدور القرار الجمهوري رقم83 لعام1969 بإعادة تشكيل الهيئات القضائية الذي بمقتضاه تم عزل127 قاضيا. وقد أكد الدستور المصري الحالي علي مبدأ استقلال السلطة القضائية, فوفقا للمادة165 فإن السلطة القضائية مستقلة, وتتولاها المحاكم علي اختلاف أنواعها ودرجاتها, وتصدر أحكامها وفق القانون. فيما تنص المادة166 علي أن القضاة مستقلون, لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون, ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة. أما المادة167 فتنص علي أن القانون يحدد الهيئات القضائية واختصاصاتها وينظم طريقة تشكيلها ويبين شروط وإجراءات تعيين أعضائها ونقلهم. بينما تقضي المادة168 بأن القضاة غير قابلين للعزل, وينظم القانون مساءلتهم تأديبيا. أما المادة173 فتقضي بأن تقوم كل هيئة قضائية علي شئونها, ويشكل مجلس يضم رؤساء الهيئات القضائية يرأسه رئيس الجمهورية, يرعي شئونها المشتركة, ويبين القانون تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه, كما تقضي المادة64 بأن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة, فيما تنص المادة65 علي أن تخضع الدولة للقانون, واستقلال القضاء وحصانته ضمانان أساسيان لحماية الحقوق والحريات. ما الذي جري إذن للقضاء المستقل, والفصل بين السلطات, والعلاقة الوثيقة بين هذه وتلك وحياة الناس؟ الموضوع كله يحتاج تفكيرا طويلا وعميقا من كل أركان النظام السياسي الذي اختلطت أوراقه بطريقة مزعجة. ولا يوجد لدي شك أن موضوع السلطة القضائية هو أهم الموضوعات التي تحتاج النظر خاصة بعد الأزمة بين المحامين والقضاة التي وضعت النظام كله في مأزق كبير بين التدخل غير الواجب حتي تبقي السلطة القضائية علي استقلالها, والسكوت وترك المنازعات تسير في طريقها, فيدفع المجتمع كله ثمنا باهظا لأهواء باتت فائرة. تنص المادة166 علي أن القضاة مستقلون, لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون, ولا يجوز لأي سلطة التدخل في القضايا أو في شئون العدالة. أما المادة167 فتنص علي أن القانون يحدد الهيئات القضائية واختصاصاتها وينظم طريقة تشكيلها ويبين شروط وإجراءات تعيين أعضائها ونقلهم |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق