شيراك.. رئيس يتجنب «القفص» أول رئيس فرنسي يحاكم بعد مغادرته المنصب ورفع الحصانة عنه.. قمة طموحه كانت رئاسة البنك المركزي باريس: إنعام كجه جي
يمكن، حسب قاموس «كليلة ودمنة»، وصف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بأنه نجح في أن يجمع بين صفات النحلة دائبة الحركة وبين الجمل الصبور الذي يطل على رفاقه من هامة عالية. هو لا يشبه سلفه الثعلب فرانسوا ميتران، ولا خلفه القنفذ نيكولا ساركوزي. لقد فرض الرئيس الاشتراكي الأسبق على الفرنسيين أن ينسوا فصلا معينا من تاريخه. أما الرئيس الحالي فليس وراءه تاريخ طويل يحتمل النسيان. وفي ما يخص شيراك فقد هرعت حجة ضعف الذاكرة، لنجدته من المثول أمام القاضي، في جلسات محاكمته الجارية في باريس بتهمة سوء استغلال النفوذ والعبث بالمال العام.مثل النحلة ومثل الجمل، عمل شيراك كثيرا ولبد طويلا، في انتظار فرصته للجلوس على كرسي الرئاسة. غير أن دخول «الإليزيه» ليس مثل الخروج منه. وها هو، بعد تقاعده وزوال مظلة الحصانة عنه، يحاكم جنائيا عن خطايا ارتكبها عندما كان عمدة للعاصمة باريس، في تسعينات القرن الماضي. ولم يحدث أن واجه رئيس فرنسي مثل هذا الموقف. حتى الماريشال فيليب بيتان الذي وضع يده في يد العدو الألماني، خلال الحرب العالمية الثانية، حوكم بتهمة سياسية هي الخيانة العظمى، وليس عن وظائف وهمية ومرتبات من ميزانية البلدية، وزعها على عدد من أعضاء حزبه لكي يغطي تفرغهم للعمل في الحزب.
وإذا كانت هذه التهم قديمة ومعروفة وأسالت الكثير من حبر الصحافة، فإن المحيطين بالرئيس السابق، وعلى رأسهم زوجته برناديت، شمروا عن سواعدهم لكي لا يجد شيراك نفسه مساقا، وهو على أعتاب الثمانين، للوقوف في محكمة تحاسبه على تبذير مبالغ زهيدة نسبيا، وهو الرجل الذي عاش حياته يخدم فرنسا. لكن العدالة تصر على أن تأخذ مجراها. والحل الوحيد كان في أن يطلب الرئيس المتهم إعفاءه من حضور الجلسات شخصيا بسبب شرود في الذاكرة. إن من يراه في الصور الملتقطة له حديثا، يجد رجلا ذا نظرات ضائعة، يزم شفتيه بشكل غريب وكأنه يحبس شتيمة، يسير بخطوات واهنة وهو يتوكأ على كتف حارسه. هل هذا هو شيراك الذي قالت برناديت، ذات يوم غير بعيد، إنها مثل السلحفاة التي لا تستطيع مجاراة زوجها في سرعته؟
حين خطبها، قال والده لأبيها إن ابنه يطمح أن يصل إلى منصب كبير وقد يصبح، ذات يوم، محافظا للبنك المركزي. كان ذلك أقصى طموحه. ثم جاء لقاؤه مع الرئيس جورج بومبيدو ليفتح أمامه بوابات أبعد. فعمل في طاقمه، ثم ترشح للنيابة، ودخل الحكومة، وصار رئيسا للوزراء، فالرئيس الثاني والعشرين للجمهورية الفرنسية، ممثلا معسكر اليمين وحزب «التجمع من أجل الجمهورية» الذي كان من مؤسسيه. لكن بداياته كانت تشير إلى اتجاه معاكس. فكما يحدث مع الشباب في بدايات حياتهم، ناضل شيراك لفترة وجيزة مع الحركات المؤيدة للحزب الشيوعي وكان يبيع «لومانيتيه»، صحيفة الحزب، في الشوارع القريبة من معهده، كما شارك في اجتماع واحد، على الأقل، لخلية شيوعية. وبصفته طالب علوم سياسية متحمسا للسلام العالمي، وقع على «نداء استوكهولم» ضد التسلح النووي، الأمر الذي عرضه للاستجواب، في القنصلية الأميركية في باريس، عندما تقدم لطلب تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، عام 1952. سافر إلى هناك ليكون مستمعا في الصفوف الصيفية لجامعة «هارفارد». ولما انتهى الصيف، قرر الشاب الفرنسي أن يأخذ استراحة من الدراسة لمدة سنة، طاف خلالها مدن أميركا وعمل نادلا في المطاعم وتعلم الإنجليزية.
حين عاد من أميركا إلى مقاعد الدراسة، كانت أفكاره قد استدارت من اليسار إلى اليمين. وكانت برناديت شودرون دو كورسيل، سليلة العائلة الأرستقراطية، زميلته في معهد باريس المرموق للعلوم السياسية. ولعله وجد فيها المرأة التي تناسب طموحه الجديد، رغم معارضة عائلتها التي اعتبرته سليل وسط ريفي مغاير من منطقة «لا كوريز» وابن موظف عادي في مصرف، علماني يؤمن بالقيم الجمهورية. لكن برناديت كانت تريده، وقد تم الزواج عام 1956، بعد أن أنهى شيراك أطروحة التخرج في موضوع الجغرافيا الاقتصادية وحصل على تقدير «جيد» وحل ثالثا على دفعته. وحال تسلمه شهادة المعهد، تقدم إلى المدرسة العليا للإدارة، أو ما يسمى بمعهد تخريج الوزراء والرؤساء، وقبل فيها.
أدى شيراك الخدمة العسكرية جنديا في مدرسة الخيالة في بلدة «سومور». وحرم من أن يكون ضابطا بسبب ماضيه الشيوعي، وكان لا بد من تدخل والد زوجته والتوسط لدى معارفه لكي يصبح الصهر مساعد ملازم. وقد كان في إمكان شيراك، باعتباره طالبا في مدرسة الإدارة، أن يطلب الإعفاء من الالتحاق بحرب الجزائر، لكنه تطوع للذهاب إلى هناك، وجاء تنسيبه إلى الكتيبة السادسة من «قناصة أفريقيا» المتمركزة في تلمسان. وأثناء خدمته، أصيب بجرح في الوجه ورقي إلى رتبة ملازم. بعد ذلك بسنوات، كتب شيراك أنه كان من أنصار بقاء الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي ولم يصبح ديغوليا من أنصار التسليم باستقلالها إلا عام 1958.
حين يسأل شيراك عن اسم عائلته، يرد بأنه جاء من لغة «الأوك»، أي لغة الشعراء والمغنين الجوالين. وهو قد أحب المطالعات الأدبية منذ صغره كما دأب على قراءة مجلة «كوك هاردي»، وكانت من مطبوعات القصص المصورة التي صدرت بعد الحرب الثانية. وكانت المجلة تشجع الفتية من قرائها على اختيار شخصية يتقمصونها، وقد اختار شيراك أن يكون «الصقر المجنح». كما تطوع بعد الثانوية، خلافا لرغبة أبيه، ليكون بحارا لمدة 3 أشهر على متن سفينة لشحن الفحم الحجري، على أمل استكشاف شيء من العالم. وفيما بعد، عرفت عنه هوايات مستوردة من البلاد البعيدة، مثل شغفه بمصارعة «السومو» اليابانية، وتبحره في حضارات الأقوام البدائية وفنونها. وقد تهيأ له، بعد الرئاسة، أن يقيم لتلك الفنون متحفا على ضفة «السين» وسط باريس، العاصمة التي عاهد سكانها، يوم أصبح عمدة لها، أن يستيقظوا كل صباح على لمسة جمال إضافية جديدة فيها.
منذ اقترنت به، أدركت برناديت شيراك أن زوجها لن يمنحها من وقته إلا القليل. لذلك مارست دورها الخاص كمستشارة بلدية وراعية لجمعية خيرية تهتم بتحسين إقامة الأطفال المرضى في المستشفيات، كما أنجبت ابنتين، لورنس (1958) وكلود (1962). وفي حين أصبحت الثانية ساعدا أيمن لأبيها ومستشارة له في علاقاته مع الإعلام، عانت ابنة شيراك البكر من مرض استدعى إدخالها مصحة علاجية متخصصة منذ فترة مبكرة. وقبل سنوات قلائل، اعترف الرئيس السابق بأنه تغاضى عن واجبه في رعاية ابنته المريضة وترك الحمل كله على كاهل زوجته، وطلب منهما الصفح. فهو كان مشغولا بسباق الأحزاب ومسيرة الارتقاء نحو القمة، منذ أن أتاحت له مصاهرة أسرة شودرون دو كورسيل أن يتقرب من الأوساط الاجتماعية العليا، كما وفرت له مؤهلاته الدراسية، مقرونة بطموحه، الحصول على وظائف جيدة قادته للاضطلاع بمهمات في الأشغال البلدية، عام 1962، تحت إمرة الأمين العام للحكومة، آنذاك، جورج بومبيدو. ولما أصبح بومبيدو رئيسا للوزراء في عهد الرئيس شارل ديغول، أخذ معه شيراك للعمل في مكتبه، وهي التجربة التي شجعته على خوض غمار العمل السياسي.
بدأ من أسفل السلم، عضوا في المجلس البلدي في «سانت فيريول»، عام 1965، البلدة التابعة لمنطقة «لا كوريز»، معقل عائلته. وفي السنة التالية شجعه بومبيدو على انتزاع منصب بلدي أكبر، إلى أن أصبح عمدة للمنطقة ونائبا عن الإقليم كله. ثم لم يعد أحد يستطيع إيقافه. وحسب فرانسوا باروان، وزير الاقتصاد الحالي الذي يعتبر من الأبناء الروحيين للرئيس السابق، فإن «شيراك يتطلع دائما أمامه ولا ينظر مطلقا نحوه»، حتى ولو تسبب في صراعات داخل عائلته السياسية. وهو قد عرف كيف يوظف طبعه الاجتماعي وابتسامته العفوية لكسب الموالين، وكان ذوقه الريفي هو مفتاح دخوله إلى قلوب الشرائح الواسعة من العمال والمزارعين في البقاع النائية، فهو يحب مثلهم طبق «رأس البقر» ويتغنى بنبيذ البلاد ويحتسي بيرة «كورونا» التي حققت بفضله دعاية لم تكن متوقعة. وفي عصر يلعب فيه المظهر دورا أساسيا، استفاد شيراك من طول قامته الذي يذكر بالجنرال ديغول، ومن وسامة جديدة على المشهد السياسي الفرنسي، بعد بومبيدو وفاليري جيسكار ديستان وميتران.
كان بومبيدو قد أطلق عليه لقب «البلدوزر». وهو قد أسس حزب «التجمع من أجل الجمهورية» عام 1976 لكي يكون اللافتة التي يخوض تحتها معاركه السياسية. وفي السنة التالية انتخب عمدة لباريس، وظل زعيما للحزب حتى بدء حملته لانتخابات الرئاسة، في خريف 1994. ولم تكن معركته الأولى، فهو كان قد خسر الانتخابات السابقة أمام ميتران، عام 1988، دون أن يخرج من السباق. فقد كان الرئيس مضطرا لتكليفه بتشكيل الوزارة، باعتباره زعيم المعارضة، حيث عرفت البلاد أول فصل من فصول ما سمي بـ«التعايش» بين اليمين واليسار. ولعل علاقة الرجلين تصلح قصة لفيلم سينمائي مشوق، فقد خاضا مناظرة تلفزيونية مشهودة، كان فيها ميتران يصر على مخاطبة خصمه بلقب «السيد رئيس الوزراء»، بينما كان شيراك يريد منه أن يعتبره مرشحا قويا مسويا له في المعركة وليس مجرد وزير أول يعمل تحت توجيهاته. وكما تعايش شيراك مع ميتران في ولايته الأولى، وجد نفسه في مأزق مماثل حين اضطر وهو رئيس، عام 1997، إلى التعايش مع رئيس اشتراكي للوزراء هو ليونيل جوسبان، في واحد من أرقى وجوه اللعبة الديمقراطية.
حين أعلن فوزه بالرئاسة، في ربيع 1995، بنسبة تزيد قليلا على 52 في المائة من الأصوات، كاد شيراك يسقط من الفرح، من نافذة مقره الانتخابي وهو يطل مدفوعا من مساعديه على الأنصار الذين احتشدوا، في الأسفل، للاحتفال بالفوز. وهو قد قاد فرنسا في مرحلة برزت في أوروبا كقوة موحدة، وبخلاف النداء الذي كان قد وقعه وهو مراهق، كان شيراك من أنصار تعزيز التسلح النووي لبلاده ومد علاقات وطيدة مع فوزه بولاية ثانية، عام 2002، فقد كان سهلا وجاءه على طبق من فضة، بنسبة 82 في المائة من الأصوات، بعد خسارة المرشح الاشتراكي، ليونيل جوسبان، في الدورة الأولى من الانتخابات. يومها، كان شيراك هو المرشح الوحيد الذي يصطف خلفه الفرنسيون، في الدورة الانتخابية الثانية، جدارا يحمي البلاد من الوقوع في قبضة جان ماري لوبين، الزعيم العنصري.
قبل ذلك، كان الرئيس «المحبوب» قد مر بمرحله بدا فيها وكأنه فقد سحره، وكانت أنباء المخالفات المالية وقضايا التزوير الانتخابي قد طالت عددا من المقربين منه، وراح الكوميديون يسخرون منه في برامج التلفزيون، وتراجعت أسهم حزبه إلى حدود متدنية، ولم يجد شيراك من يقف وراءه ويشد من أزره سوى زوجته المخلصة برناديت. لقد كشفت استطلاعات الرأي أنها تتمتع بشعبية واحترام كبيرين بين الفرنسيين، فسارعت ابنتها إلى التواري لتترك المشهد للسيدة الأولى، تزور المقرات الانتخابية وتستجمع القوى المشتتة وتظهر للحديث في برامج التلفزيون لكي تمتدح زوجها، وهي التي ظلت متوارية في ظله بلا صوت ولا صورة. وأثمرت الحملة تقدما للحزب الذي صار اسمه «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، وعودة الأغلبية إلى الالتفاف حوله، الأمر الذي مهد لتسليم الراية إلى الرئيس ساركوزي.
في الولاية الثانية، بدا شيراك وكأنه استراح من الجري ولم يعد في الأفق جديد يستحق المثابرة. مع هذا، فقد كان موقفه الشجاع والمخالف للموقف الأميركي من غزو العراق، عام 2003، علامة تذكر في تاريخه، بالإضافة إلى موقفه الداعم للقضية الفلسطينية. وهو عندما غادر المنصب، لم يجد في باريس، المدينة التي كان عمدة أضفى عليها الكثير من المشاريع الجديدة، منزلا يملكه ويسكن فيه، فسكن في شقة وضعها تحت تصرفه آل الحريري، أصدقائه اللبنانيين. أما إجازاته الصيفية فهو يمضيها في ضيافة أصدقائه القدماء من أمثال رجل الأعمال فرانسوا بينو، على شواطئ جنوب البلاد. لقد عاش الرجل في قصور الدولة، من قصر البلدية إلى قصر «ماتينيون» مقر رئاسة الوزارة، وأمضى 12 عاما في «الإليزيه». وليس معنى هذا أنه معدم حاله حال المشردين الكثر في العاصمة، بل يحصل شيراك على مرتب شهري يقترب من 19 ألف يورو، هو مجموع رواتبه التقاعدية من أربع وظائف مختلفة تسلمها خلال حياته المهنية. ومثل كل الرؤساء السابقين، فإن شيراك هو عضو مدى الحياة في المجلس الدستوري الفرنسي، بالإضافة إلى إشرافه على مؤسسة تحمل اسمه وتعنى بحوار الثقافات.
ومن المثير أن شعبية شيراك ظلت مرتفعة حتى بعد مغادرته السلطة. ومثلها شعبية زوجته التي كشفت في كتاب للصحافي باتريك دو كارولي عن أن زوجها يقول لها، كل صباح، «احمدي ربك لأنني تزوجتك». وهو لم يكن مخلصا لها تماما، لكنه عرف كيف يستتر لكي يحافظ عليها ولا يهينها كما فعل الرئيس الذي سبقه. وعندما تقول تقارير صحافية إن شيراك مصاب بنوع من الخرف، فإن المصورين يغرقون مطابخ التحرير بلقطات له، في منتجع «سان تروبيه» الساحلي وهو يوقع على دفاتر المعجبات الشابات ويحييهن بقبلة على اليد، لأن «ألزهايمر» لم يسلبه كل فنون الرهافة الفرنسية. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق