لغز رأس المال
هيرناندو دى سوتو
الفصل الأول: أسرار رأس المال الخمسة
إن المشكلة الأساسية هى التوصل إلى السبب فى أن هذا القطاع من مجتمع الماضى، الذى لن أتردد فى أن أدعوه بالرأسمالى، كان لابد وأن يعيش فى ناقوس زجاجى، معزولا عن الباقى حوله، والسبب فى أنه لم يكن يستطيع التوسع ويغزو المجتمع كله ؟ … (ما هو السبب) فى أن معدلا كبيرا من تكوين رأس المال لم يكن ممكنا إلا فى قطاعات معينة، وليس فى كل اقتصاد السوق فى ذلك العصر ؟
ـ فيرناند برودل، " عجلات التجارة "
إن اللحظة التى تحقق فيها أكبر انتصار للرأسمالية هى لحظة أزمتها. فقد أنهى سقوط سور برلين ما يزيد على قرن من المنافسة السياسية بين الرأسمالية والشيوعية. وبرزت الرأسمالية وحدها باعتبارها الطريق العملى الوحيد لتنظيم اقتصاد حديث على نحو رشيد. وفى هذه اللحظة من التاريخ، لم يكن هناك خيار لأى دولة مسؤولة، ونتيجة لذلك، وبدرجات متباينة من الحماس، حققت بلدان العالم الثالث، والبلدان الشيوعية السابقة توازن ميزانياتها، وخفضت الدعم، ورحبت بالاستثمار الأجنبى، وقللت حواجزها الجمركية
وكانت ثمرة جهودها خيبة أمل مريرة. فمن روسيا إلى فنزويلا، كان نصف العقد الماضى زمنا للمعاناة الاقتصادية، والدخول المنهارة، والقلق، والسخط؛ زمنا " من الموت جوعا وأعمال الشغب والسلب "، على حد تعبير الكلمات القارصة لمحاضر محمد رئيس وزراء ماليزيا. وقد ذكرت " النيويورك تايمز " فى افتتاحية أخيرة لها أنه " فى كثير من أنحاء العالم، تم فرض قيام السوق الذى مجده الغرب فى زهو الانتصار فى الحرب الباردة، مع ما صحب ذلك من قسوة الأسواق، وحذر من الرأسمالية، ومخاطر عدم الاستقرار ". إن انتصار الرأسمالية فى الغرب وحده يمكن اعتباره طريقا لوقوع كارثة اقتصادية وسياسية
وبالنسبة للأمريكيين الذين يتمتعون بالسلام والازدهار على حد سواء، كان من السهل تماما تجاهل الاضطرابات التى تحدث فى أماكن أخرى، فكيف تعانى الرأسمالية متاعب فى الوقت الذى يتصاعد فيه مؤشر داو جونز الصناعى بقدر يفوق مؤشر سير ادموند هيلارى ؟ إن الأمريكيين ينظرون إلى الدول الأخرى ويرون أنها تحقق تقدما، حتى وإن كان بطيئا وغير متكافئ. ألا تستطيع أن تأكل سندوتشات " بيج ماك " فى موسكو، وتستأجر شريط فيديو من " بلوكباستر " فى شنغهاى، وأن تتصل بالإنترنت فى كاراكاس ؟
ومع ذلك، فحتى فى الولايات المتحدة، لا يمكن تبديد الهواجس كلية، فالأمريكيون يرون أن كولومبيا تقف على شفا حرب أهلية كبرى بين عصابات مهربى المخدرات، والميليشيات الساعية لقمعها، وأن هناك عصيانا مستعصيا على الحل فى جنوب المكسيك، وأن جزءا مهما من النمو الاقتصادى المفروض بالقوة فى آسيا يستنزفه الفساد والفوضى. وفى أمريكا اللاتينية، يضمحل التعاطف مع الأسواق الحرة : فقد انخفض التأييد للخصخصة من 46 فى المائة من السكان إلى 36 فى المائة فى مايو 2000. ومما ينذر بشر مستطير أكبر، أنه تبين أن الرأسمالية غائبة فى البلدان الشيوعية السابقة، وأن الأشخاص المرتبطين بالنظم القديمة متأهبون لتولى السلطة. ويعتقد بعض الأمريكيين أيضا أن من أسباب ازدهارهم الذى استمر عقدا من الزمان هو أنه كلما بدأ باقى العالم أكثر تقلقلا، زادت جاذبية الأوراق المالية والسندات الأمريكية كملاذ آمن للنقد الدولى.
ويثور فى مجتمع الأعمال فى الغرب، قلق متزايد من أن فشل باقى العالم فى إقامة الرأسمالية سيدفع فى نهاية الأمر الاقتصادات الغنية إلى الكساد. وإن يستخلص الملايين من المستثمرين دروسا مؤلمة من تبخر أموالهم فى الأسواق الناشئة، تغدو العولمة طريقا مزدوج المسار: فإن لم تستطع بلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة الإفلات من تأثير الغرب، فإن الغرب نفسه لا يستطيع أن يعزل نفسه عنها. كما طفقت ردود الأفعال السلبية تجاه الرأسمالية تزداد قوة فى البلدان الغنية نفسها. وتلقى أعمال الشغب التى وقعت فى سياتل فى اجتماع منظمة التجارة العالمية فى ديسمبر 1999، وبعد ذلك ببضعة شهور فى أثناء اجتماع صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى فى واشنطن العاصمة، بغض النظر عن تباين الشكاوى، الضوء على الغضب الذى تثيره الرأسمالية الآخذة فى الانتشار. وبدأ كثيرون يتذكرون تحذيرات المؤرخ الاقتصادى كارل بولاناى من أن الأسواق الحرة قد تتعارض مع مصلحة المجتمع وتؤدى إلى الفاشية. وتصارع اليابان من خلال أطول هبوط شهدته منذ الكساد الكبير ". ويقترع الناس فى أوروبا الغربية لصالح السياسيين الذى يعدونهم " بطريق ثالث "، الذى يرفض ما أسماه واحد من أكثر الكتب الفرنسية مبيعا " الرعب الاقتصادى ."
وحتى الآن لم تؤد همسات التحذير هذه، وإن كانت تدعو للقلق، إلا إلى حث القادة الأمريكيين والأوروبيين على أن يكرروا على مسامع باقى العالم نفس المحاضرة المملة: ثبتوا عملاتكم، تشددوا، تجاهلوا أعمال الشغب المطالبة بالطعام، وانتظروا فى أناة أن يعود المستثمرون الأجانب.
بالطبع إن الاستثمار الأجنبى أمر طيب للغاية. وكلما زاد، كان ذلك أفضل. والعملات المستقرة أمر طيب، هى أيضا، مثلها مثل التجارة الحرة والممارسات المصرفية الشفافة وخصخصة الصناعات المملكوة للدولة وكل علاج آخر فى مجموعة الأدوية الغربية. ومع ذلك، فنحن ننسى باستمرار أن الرأسمالية العالمية قد اختبرت من قبل. ففى أمريكا اللاتينية مثلا، جربت الإصلاحات الرامية لإقامة نظم رأسمالية أربع مرات على الأقل منذ الاستقلال عن أسبانيا فى عشرينيات القرن التاسع عشر. وفى كل مرة، وبعد نوبة الحماس الأولى، ارتد أهل أمريكا اللاتينية عن السياسات الرأسمالية وسياسات اقتصاد السوق. ومن الواضح أن هذا العلاج غير كاف، والواقع أنه قاصر لحد أن يصبح بغير معنى.
وعندما يفشل هذا العلاج، فإن رد فعل الغربيين عادة لا يتمثل فى التساؤل عن مدى كفاية العلاج المقترح وإنما فى إلقاء اللوم على شعوب العالم الثالث، ويتهمونهم بالافتقار إلى القدرة على تنظيم المشروعات وروحها والتوجه نحو السوق. فإن أخفقوا فى تحقيق الإزدهار رغم ما يقدم لهم من نصائح رائعة، فإن ذلك يعود لعيب أساسى فيهم : الافتقار إلى " الإصلاح البروتستانتى "، أو أن الميراث الذى يكبلهم والذى ورثوه عن أوروبا الاستعمارية يقعدهم عن الحركة، أو أن معدل ذكائهم جد منخفض. لكن القول بأن الثقافة هى التى تفسر نجاح أماكن جد مختلفة مثل اليابان وسويسرا وكاليفورنيا، وأن الثقافة أيضا هى التى تفسر الفقر النسبى لأماكن متباينة بالمثل كالصين، وإستونيا، وباجا كاليفورنيا، هو قول غير إنسانى بل أسوأ من ذلك، وهو قول غير مقنع. إن التباين فى الثروة بين الغرب وباقى العالم أكبر كثيرا من أن تفسره الثقافة وحدها. فمعظم الناس يريدون ثمار رأس المال ـ لدرجة أن كثيرين. إبتداء من أبناء سانشيز إلى ابن خروشوف، يندفعون أفواجا للبلدان الغربية.
إن مدن بلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة تعج بمنظمى المشروعات. فلا يمكنك أن تتجول فى سوق فى الشرق الأوسط، أو تمضى فى نزهة إلى قرية فى أمريكا اللاتينية، أو تركب سيارة أجرة فى موسكو دون أن يحاول شخص ما أن يبرم صفقة معك. إن سكان هذه البلدان يملكون الموهبة والحماس والقدرة المذهلة على اعتصار الربح من لا شئ عمليا. وفى مقدورهم استيعاب التكنولوجيا الحديثة واستخدامها. وفى غير هذا، لم تكن دوائر الأعمال الأمريكية لتجاهد للسيطرة على الاستخدام غير المرخص به لبراءات الاختراع التى تملكها فى الخارج، ولم تكن حكومة الولايات المتحدة لتصارع بصورة يائسة للإبقاء على تكنولوجيا الأسلحة الحديثة بعيدا عن متناول أيدى بلدان العالم الثالث. إن الأسواق تقليد قديم وعالمى : فقد طرد السيد المسيح التجار من المعبد قبل ألفى عام، وكان المكسيكيون يذهبون بمنتجاتهم إلى السوق قبل وصول كولمبس لأمريكا بزمن طويل.
ولكن إذا لم يكن الناس فى البلدان التى تحقق الانتقال إلى الرأسمالية، شحاذين جديرين بالشفقة، وإن لم يكونوا قد وقعوا فى إسار الطرق المتقادمة بصورة لا أمل فيها، وإن لم يكونوا أسرى ثقافات عجزت عن أداء مهامها بحيث لا ينتقدونها، فما الذى يحول دون أن تقدم لهم الرأسمالية نفس الثروة التى قدمتها للغرب ؟ لماذا تزدهر الرأسمالية فى الغرب وحده، كما لو كانت قد غلفت بناقوس زجاجى ؟
اعتزم فى هذا الكتاب أن أبين أن حجر العثرة الأساسى الذى يحول دون استفادة باقى العالم من الرأسمالية يتمثل فى عجزه عن إنتاج رأس المال. فرأس المال هو القوة التى تزيد إنتاجية العمل وتخلق ثروة الأمم. إنه شريان الحياة بالنسبة للنظام الرأسمالى، أساس التقدم، والشىء الذى يبدو أن بلدان العالم الفقيرة لا تستطيع أن تنتجه لنفسها، مهما كان الحماس الذى تنخرط به شعوبها فى كل الأنشطة الأخرى التى تميز الاقتصاد الرأسمالى.
كما سأبين، بمساعدة الحقائق والأرقام التى جمعها فريق البحث المعاون لى، من حى سكنى بعد آخر، ومن مزرعة تعد مزرعة فى آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، أن معظم الفقراء يملكون بالفعل الأصول التى يحتاجونها لتحقيق نجاح الرأسمالية. ذلك أن الفقراء يدخرون حتى فى أكثر البلدان فقرا. إن قيمة المدخرات لدى الفقراء، هائلة فى الواقع ـ أربعون مثل كافة المعونات الأجنبية التى تم تلقيها فى كافة أنحاء العالم منذ 1945. ففى مصر مثلا، تساوى الثروة التى تراكمت لدى الفقراء خمسة وخمسين مثل مبلغ كافة الاستثمارات الأجنبية المباشرة التى سجلت فيها، بما فى ذلك قناة السويس وسد أسوان. وفى هاييتى، وهى أفقر بلد فى أمريكا اللاتينية، يزيد مجموع الأصول لدى الفقراء على مائة وخمسين مثل كافة الاستثمارات الأجنبية المتلقاة منذ استقلال هاييتى عن فرنسا فى 1804. ولو كانت الولايات المتحدة قد رفعت ميزانية المعونة الخارجية التى تقدمها إلى المستوى الذى أوصت به الأمم المتحدة ـ 0.7 فى المائة من الدخل القومى ـ لاستغرق الأمر من أغنى بلد فى العالم أكثر من 150 سنة لتحول لفقراء العالم موارد تساوى تلك التى يملكونها فعلا.
لكنهم يحتفظون بهذه الأصول فى شكل معيب : بيوت بنيت على أراض ملكيتها ليست مسجلة بالشكل السليم، ودور أعمال لا تأخذ شكل الشركات ومسؤوليتها غير محددة، وصناعات قائمة حيث لا يستطيع الممولون والمستثمرون رؤيتها. ونظرا لأن الحقوق فى هذه الممتلكات ليست موثقة على النحو السليم، فإن هذه الأصول لا يمكن تحويلها بسهولة إلى رأس مال، ولا يمكن مبادلتها خارج الدوائر المحلية الضيقة التى يعرف الناس فيها بعضهم ويثقون فى بعضهم البعض، ولا يمكن استخدامها كرهن لضمان القروض، ولا يمكن استخدامها كحصة فى استثمار ما.
وعلى العكس من ذلك فى الغرب، فإن كل قطعة أرض، وكل بناية، وكل قطعة من المعدات، أو مخزن للموجودات، تمثلها وثيقة للملكية تشكل دليلا مرئيا على عملية مستترة شاسعة تربط كل هذه الأصول بباقى الاقتصاد. وبفضل هذه العملية الوصفية التمثيلية، فإن الأصول يمكن أن تكتسب حياة غير مرئية موازية إلى جانب وجودها المادى. إذ يمكن استخدامها كرهن ضمان لائتمان ما. إن أهم مصدر وحيد للأموال بالنسبة لمشروعات الأعمال الجديدة فى الولايات المتحدة هو الرهن على مؤسسات منظمى المشروعات. ويمكن لهذه الأصول أيضا أن توفر رابطة بتاريخ المالك الائتمانى، وعنوان مختار خاضع للمساءلة لتحصيل الديون والضرائب، وأساس لإقامة مرافق عامة يعول عليها وشاملة، وأساس لإنشاء الأوراق المالية (مثل السندات المستندة إلى رهن) والتى يمكن عندئذ إعادة خصمها وبيعها فى الأسواق الثانوية وبهذه العملية يبعث الغرب أنفاس الحياة فى الأصول ويجعلها تولد رأس المال.
ولا تتوافر لبلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة هذه العملية الوصفية التمثيلية. ومن جراء ذلك، فإن معظمها يشكو من نقص الرسملة، بنفس الطريقة التى تعانى بها شركة ما من نقص الرسملة عندما تصدر أوراقا مالية أقل مما يبرره دخلها وأصولها. إن مشروعات الفقراء تشبه كثيرا الشركات التى لا تستطيع أن تصدر أسمها أو سندات للحصول على استثمار وتمويل جديدين. ذلك أنه بدون توافر الوصف التمثيلى، تعد أصولها رأسمالا ميتا غير منتج.
إن لدى سكان هذه البلدان من الفقراء ـ وهم خمسة أسداس البشرية ـ أشياء يملكونها، لكنهم يفتقرون إلى العملية التى تصف وتمثل ملكيتهم وتخلق رأس المال. ذلك أن لديهم بيوتا، لكن ليس لديهم سندات حقوق ملكية؛ لديهم محاصيل لكن ليس لديهم صكوك ملكية؛ ولديهم دور أعمال لكن ليس لديهم النظام الأساسى للشركات. إن عدم توافر هذه الأنواع الأساسية من الوصف والتمثيل هو الذى يفسر السبب فى أن الناس الذين طوعوا كل الاختراعات الغربية الأخرى، من مشبك الورق إلى المفاعل النووى، لم يستطيعوا أن ينتجوا ما يكفى من رأس المال لجعل رأسماليتهم المحلية تثمر.
ذلك هو سر رأس المال. ويتطلب حله فهم السبب فى أن الغربيين استطاعوا عن طريق وصف وتمثيل الأصول بسندات ملكية، أن يروا فيها رأس المال وأن يستخلصوه منها. إن من أكبر التحديات التى تواجه العقل البشرى فهم، والوصول إلى، الأشياء التى نعرف أنها موجودة ولا نستطيع أن نراها. ليس كل ما هو حقيقى ومفيد، ملموس ومرئى. فالزمن مثلا حقيقى، ولكن لا يمكن إدارته بصورة كفء إلا عندما تمثله الساعة والتقويم الزمنى. وعلى مر التاريخ، اخترع البشر أنظمة وصفية تمثيلية ـ الكتابة، النوتة الموسيقية، إمساك الدفاتر ذات القيد المزدوج ـ ليدركوا بالعقل ما لا يمكن لأيدى البشر أن تلمسه أبدا. وبنفس الطريقة، فإن الممارسين العظام للرأسمالية، من منشئى نظم سندات الملكية المتكاملة وأسهم الشركات إلى مايكل ميلكن، استطاعوا أن يكتشفوا رأس المال وأن يستخلصوه، حيث لم ير الآخرون فيه سوى سقط المتاع، وذلك باستنباط طرق جديدة تمثل الإمكانات غير المرئية المخبوءة فى الأصول التى نراكمها.
وفى نفس هذه اللحظة التى تحيط بك فيها موجات التليفزيون الأوكرانى والصينى والبرازيلى التى لا تستطيع أن تراها، تحيط بك أيضا أصول تخفى رأسمالا على نحو غير مرئى. وتماما مثلما أن موجات التليفزيون الأوكرانى الأضعف كثيرا من أن تجعلك تشعر بها بصورة مباشرة، يمكن فك شفرتها بمساعدة أجهزة تليفزيونية ورؤيتها وسماعها، فإن رأس المال يمكن استخلاصه ومعالجته من الأصول. لكن الغرب وحده لديه عملية التحويل المطلوبة لجعل غير المرئى مرئيا. وهذا التباين هو الذى يفسر السبب فى أن الدول الغربية تستطيع أن تخلق رأس المال، وأن بلدان العالم الثالث، والبلدان الشيوعية السابقة لا تستطيع ذلك.
إن غياب هذه العملية فى المناطق الأفقر فى العالم ـ حيث يعيش ثلثا البشر ـ ليس نتيجة نوع من المؤامرة الاحتكارية الغربية، بل الأحرى أن الغربيين اعتبروا هذه الآلية أمرا مسلما به بصورة كاملة إلى حد أنهم فقدوا الوعى بوجودها. ورغم ضخامتها، فإن أحدا لا يراها، بما فى ذلك الأمريكيون والأوروبيون واليابانيون الذى يدينون بكل ثروتهم إلى قدرتهم على استخدامها. إنها بنية أساسية قانونية ضمنية مخبوءة فى أعماق نظم الملكية لديهم ـ لا تمثل الملكية فيها سوى قمة جبل الجليد. ويتمثل باقى جبل الجليد فى عملية معدة من صنع الإنسان يمكنها تحويل الأصول والعمل إلى رأس مال. ولم يتم خلق هذه العملية من طبعة أصلية، ولا يرد وصفها فى الكتيبات المصقولة. فأصولها غامضة ودلالتها مطمورة فى اللاوعى الاقتصادى للبلدان الرأسمالية الغربية.
كيف يغيب عن ذهننا شىء بهذه الأهمية ؟ ليس من غير الشائع بالنسبة لنا معرفة كيفية استخدام الأشياء دون فهم السبب فى أنها تجدى. فقد استخدم البحارة البوصلة المغناطيسية قبل زمن طويل من اكتشاف نظرية مرضية عن المغناطيسية.
وتوافرت لمربى الماشية معرفة عملية بالجينات قبل أن يفسر جريجور مندل مبادئ الوراثة بزمن طويل. وحتى عندما يزدهر الغرب من جراء وفرة رأس المال، هل يدرك الناس حقا أصل رأس المال ؟ وإذا لم يدركوا ذلك، فستظل هناك دوما إمكانية لأن يدمر الغرب مصدر قوته. ذلك أن توافر الوضوح بشأن أصل رأس المال، يؤهل الغرب أيضا لحماية نفسه وباقى العالم فور أن يسلم الازدهار الحاضر نفسه لأزمة لا ريب فى أنها ستحل. ومن ثم، فإن السؤال الذى يثور دوما فى الأزمات الدولية سيتردد مرة ثانية : فلوس من هى التى ستستخدم لحل المشكلة ؟
وحتى الآن، كانت البلدان الغربية سعيدة لاعتبار نظامها لإنتاج رأس المال أمرا مسلما به بصورة كلية، وترك تاريخه دون توثيق. لابد من استعادة ذلك التاريخ. وهذا الكتاب محاولة لإعادة استكشاف مصدر رأس المال، ومن ثم تفسير كيفية تصحيح الإخفاق الاقتصادى للبلدان الفقيرة. وهذا الإخفاق لا يرتبط بعيوب فى الثقافة أو الميراث الخاص بالوراثة. هل يقول أحد بوجود عموميات " ثقافية " مشتركة بين أهل أمريكا اللاتينية والروس ؟ ومع ذلك، ففى العقد الأخير، ومنذ أن بدأت المنطقتان فى بناء الرأسمالية بدون رأس مال، تشاركتا فى نفس المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية : عدم مساواة صارخ، اقتصادات سرية، تفشى المافيا، عدم الاستقرار السياسى، هروب رأس المال، عدم احترام القانون على نحو فاضح. ولا ترجع هذه الاضطرابات بأصولها إلى أديرة الكنيسة الأرثوذوكسية أو تمتد على مسارات حضارة الإنكا.
ولكن لم تعان بلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة وحدها من كل هذه المشكلات. إذ كان الأمر نفسه يصدق على الولايات المتحدة فى 1783، عندما اشتكى الرئيس جورج واشنطن من أن " اللصوص … يقشدون ويستحوذون على زبدة البلاد على حساب الكثرة ". وكان هؤلاء " الصوص " هم واضعى اليد وصغار منظمى المشروعات التى لا تتمتع بحماية القانون الذين يحتلون أرضا لا يملكونها. وخلال المائة عام التالية، قاتل واضعو اليد هؤلاء للحصول على حقوق قانونية فى أراضيهم، وحارب المشتغلون بالتعدين من أجل حقوقهم المدعى بها؛ لأن قوانين الملكية كانت تختلف من مدينة لأخرى، ومن مخيم إلى مخيم. وخلق إنفاذ حقوق الملكية مستنقعا للقلاقل والعداوات الاجتماعية فى كافة أرجاء الولايات المتحدة الفتية، لدرجة أن قاضى قضاة المحكمة العليا، جوزيف ستورى، تساءل فى 1820 عما إذا كان رجال القانون سيستطيعون تسويتها فى أى وقت.
هل يبدو واضعوا اليد واللصوص وعدم الاحترام الصارخ للقانون أمرا مألوفا ؟ لقد طفق الأمريكيون والأوروبيون يخبرون بلدان العالم الأخرى أنه " ينبغى لكم أن تكونوا أكثر شبها بنا " والواقع أنها تشبه كثيرا جدا الولايات المتحدة منذ قرن مضى عندما كانت هى أيضا بلدا غير متطور. لقد واجه السياسيون الغربيون ذات مرة نفس التحديات المثيرة التى يواجهها اليوم قادة البلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة. لكن خلفاءهم فقدوا الصلة بالأيام التى كان فيها الرواد الذين فتحوا الغرب الأمريكى يعانون نقصا فى رأس المال لأنهم نادرا ما كانوا يحوزون حقوق الملكية للأراضى التى استوطنوها، والسلع التى امتلكوها، عندما كان آدم سميث يتسوق فى الأسواق السوداء، وكان أولاد الشوارع الإنجليز الصغار والفقراء يحتالون للحصول على ما يلقى به إليهم السياح الضاحكون من بنسات فى أوحال ضفتى التيمس، عندما أعدم تكنوقراطيو جان بابتيست كولبير 16 ألفا من أصحاب المشروعات الصغيرة التى تمثلت كل جريمتهم فى صناعة واستيراد الأقمشة القطنية، فى انتهاك للقوانين الصناعية لفرنسا.
إن ذلك الماضى هو حاضر كثير من الدول. لقد أدمجت الدول الغربية فقراءها فى اقتصاداتها بنجاح بدرجة جعلتها تفقد حتى ذاكرتها عن كيف تحقق ذلك، وكيف بدأ خلق رأس المال ومتى بدأ، عندما " كان شىء هائل يحدث فى المجتمع والثقافة، ويطلق الطاقات والطموحات لدى الناس العاديين مثلما لم يحدث أبدا فى التاريخ الأمريكى " (1) ، مثلما كتب المؤرخ الأمريكى جوردون وود. وكان " الشىء الهائل " هو أن الأمريكيين والأوروبيين كانوا على شفا إنشاء قانون رسمى واسع الانتشار للملكية، واختراع عملية التحويل فى ذلك القانون التى سمحت لهم بخلق رأس المال. كانت هذه هى اللحظة التى عبر فيها الغرب الخط الفاصل الذى افضى بقيام رأسمالية ناجحة ـ عندما كفت عن أن تكون ناديا خاصا، وأصبحت ثقافة شعبية، عندما تحول " لصوص " جورج واشنطن المروعين إلى رواد محبوبين تفخر بهم الثقافة الأمريكية حاليا .
والمفارقة واضحة بقدر ما هى غير قابلة للحل : فرأس المال، وهو أهم مكونات التقدم الاقتصادى الغربى، هو المكون الذى حظى بأقل قدر من الاهتمام. وقد غلفه الإهمال بالأسرار ـ فى الواقع، بسلسلة من خمسة أسرار. سر المعلومات الغائبة
ركزت المنظمات الخيرية على بؤس وانعدام حيلة فقراء العالم إلى الحد الذى لم يجعل أحدا يوثق على نحو ملائم قدرتهم على مراكمة الأصول. وخلال السنوات الخمس الماضية، أغلقت أنا ومائة من الزملاء من ستة بلدان مختلفة كتبنا وفتحنا أعيننا ـ وخرجنا إلى الشوارع والأرياف فى أربع قارات لنحسب قدر ما ادخرته أفقر قطاعات المجتمع. وكانت المقادير هائلة، لكن معظمها كان رأسمالا ميتا غير منتج. سر رأس المال
ذلك هو السر الرئيسى وحجر الزاوية فى هذا الكتاب. إن رأس المال موضوع أغوى المفكرين فى القرون الثلاثة الماضية. فقد قال ماركس إنك تحتاج إلى المضى لما وراء الماديات لتلمس " الدجاجة التى تبيض البيضات الذهبية "، وكان آدم سميث يعتقد أنه يتعين عليك أن تخلق " نوعا من طريق العربات عبر الهواء " لتصل إلى نفس الدجاجة. ولكن لم يخبرنا أحد أين تختبئ الدجاجة. ما هو رأس المال، كيف يتم إنتاجه، وكيف يرتبط بالنقود ؟ سر الوعى السياسى
إذا كان هناك هذا القدر الكبير من رأس المال غير المنتج فى العالم، وفى أيدى مثل هذا العدد الكبير من الفقراء، فلماذا لم تحاول الحكومات استغلال هذه الثروة المحتملة ؟ إن ذلك يرجع ببساطة إلى أن الأدلة التى تحتاجها لم تصبح متوافرة إلا فى الأربعين عاما الماضية، حيث انتقل المليارات من الناس فى كل أنحاء العالم من الحياة المنظمة على نطاق ضيق إلى الحياة المنظمة على نطاق واسع. وسرعان ما أدت هذه الهجرة إلى المدن إلى تقسيم العمل، وأفرخت ثورة صناعية ـ تجارية ضخمة فى البلدان الأكثر فقرا ـ ثورة تم تجاهلها فعليا على نحو لا يصدق. الدروس الغائبة للتاريخ الأمريكى
إن ما يجرى فى بلدان العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة، حدث من قبل فى أوروبا وأمريكا الشمالية. وللأسف، فقد نومنا مغناطيسيا فشل مثل هذا العدد الكبير من البلدان فى تحقيق الانتقال للرأسمالية لدرجة أنستنا كيف نجحت البلدان الرأسمالية فى تحقيق ذلك عمليا. لقد ظللت سنوات طوال، التقى بالتكنوقراطيين والسياسيين فى البلدان المتقدمة، من آلاسكا إلى طوكيو، لكن لم تكن لديهم إجابة لقد كان ذلك سرا. وأخيرا، وجدت الإجابة فى كتب التاريخ الخاصة بهم، وأكثرها صلة بالموضوع تاريخ الولايات المتحدة. سر الإخفاق القانونى : لماذا لا يجدى قانون الملكية خارج الغرب
منذ القرن التاسع عشر، أخذت الدول تنسخ وتقلد قوانين الغرب لتوفر لمواطنيها الإطار المؤسسى اللازم لإنتاج الثروة. وما زالت تنسخ وتقلد مثل هذه القوانين حتى الآن، ومن الواضح أن ذلك لا يجدى. فلا يزال معظم المواطنين غير قادرين على استخدام القانون لتحويل المدخرات لرأس مال. ويظل السبب فى ذلك، وما هو مطلوب لجعل القانون يجدى سرا.
إن حل كل من هذه الأسرار هو موضوع فصل فى هذا الكتاب.
لقد حان الوقت لحل مشكلة السبب فى أن الرأسمالية انتصرت فى الغرب وجمدت عمليا فى كل مكان غيره. وحيث إن كل البدائل المعقولة للرأسمالية قد تبددت حاليا، فقد أصبحنا فى النهاية فى وضع يطوع لنا دراسة رأس المال بتجرد وحرص.
NOTES:
1 Gordon S. Wood, "Inventing American Capitalism," New York Review of Books, 9 June 1994, p. 49
Taken from "The Mystery of Capital: Why Capitalism Triumphs in the West and Fails Everywhere Else", by Hernando de Soto
Copyright © 2000 Hernando de Soto. All rights reserved
Egypt : Al haram, April 2002
Chapter 3
لغز رأس المال
لغز رأس المال
لماذا أصبح تكوين رأس المال يمثل لغزا كبيرا ؟ ولماذا لم تشرح دول العالم الغنية لغيرها من الدول أن نظام الملكية الرسمى لا غنى عنه لتكوين رأس المال ؟
تجول فى معظم الطرق فى الشرق الأوسط، أو الاتحاد السوفياتى السابق، أو أمريكا اللاتينية وسترى أشياء كثيرة : هناك بيوت تستخدم كمأوى، وقطع من الأراضى يجرى حرثها وزرعها وحصادها؛ وسلع يجرى شراؤها وبيعها. والأصول فى البلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة تخدم فى الأساس هذه الأغراض المادية العاجلة. غير أن نفس الأصول تحقق أيضا، فى الغرب، حياة موازية : كرأسمال خارج العالم المادى. إذ يمكن أن تستخدم لتحقيق إنتاج أكبر عن طريق كفالة مصالح الأطراف الأخرى " كضمان " للرهن العقارى مثلا، أو من خلال توفير أشكال أخرى من الائتمان والمرافق العامة.
لماذا لا تستطيع المبانى والأراضى فى أنحاء العالم الأخرى أن تحقق هذه الحياة الموازية ؟ ولماذا لا تستطيع الموارد الضخمة فى البلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة، التى يقدرها معهد الحرية والديمقراطية ( ليما )، بمبلغ 3ر9 تريليون دولار، كرأس مال غير منتج، أن تنتج قيمة تزيد على قيمة حالتها " الطبيعية " ؟ وجوابى على ذلك هو أن وجود رأس المال غير المنتج يرجع إلى أننا نسينا ( أو ربما لأننا لم ندرك فى أى وقت ) أن تحويل أصول مادية لتوليد رأس المال ـ كاستخدام منزلك لاقتراض نقود أو تمويل مشروع ـ يتطلب عملية شديدة التعقيد. وهى تختلف كثيرا عن العملية التى علمنا إياها ألبرت اينشتاين ومؤداها أن قرميدة واحدة يمكن استخدامها لإطلاق كمية ضخمة من الطاقة فى شكل انفجار ذرى. وبالمثل فإن رأس المال هو نتاج اكتشاف وإطلاق طاقة محتملة ناتجة عن تريليونات القرميدات التى راكمها الفقراء فى مبانيهم.
إيماءات من الماضى
يتعين علينا، لحل لغز رأس المال، الرجوع إلى المعنى الذى تطور للكلمة. ويبدو أن كلمة " رأس المال " كانت تعنى فى لاتينية القرون الوسطى رؤوس الماشية أو غيرها من أشكال الثروة الحيوانية، التى كانت دائما مصادر مهمة للثروة بغض النظر عما تنتجه من لحوم وألبان وجلود وصوف ووقود. وتستطيع الماشية أيضا أن تتوالد. ولذا فإن لفظ " رأس المال " يبدأ فى تحقيق عملين فى وقت واحد، وهما أن يعكس البعد المادى للأصول ( الثروة الحيوانية ) وكذلك إمكاناتها فى توليد فائض القيمة. ولم تكن هناك سوى خطوة قصيرة بين مخازن الحبوب وبين مكاتب مخترعى علوم الاقتصاد الذين قاموا بتعريف " رأس المال " بوجه عام بأنه جزء من الأصول التى تعطى فائض الانتاج، وتزيد الإنتاجية؟
وكان فى يقين كبار الاقتصاديين التقليديين مثل آدم سميث، وبعد ذلك كارل ماركس، أن رأس المال يعتبر القاطرة التى توفر القوة المحركة لاقتصاد السوق. وقد أكد سميث فى كتابه " ثروة الأمم " نقطة تكمن فى لب اللغز الذى نحاول حله، ومؤداها أنه لكى تصبح الأصول المتراكمة رأسمالا نشيطا تعطى دفعة لتحقيق فائض الانتاج، فإنه يجب تثبيتها وتجسيدها فى موضوع خاص " يستمر لبعض الوقت على الأقل بعد انتهاء العمل، وهذا يعنى كمية معينة من العمل المختزن المزمع استخدامها، إذا دعت الضرورة، فى فرصة أخرى ". وما أفهمه من عبارة سميث هو أن رأس المال ليس الرصيد المتراكم من الأصول ولكن ما ينطوى عليه من إمكانيات لنشر إنتاج جديد. وهذه الإمكانات تجريدية بالطبع، إذ يجب تجهيزها وإعدادها فى شكل ملموس قبل أن نستطيع إطلاقها ـ مثل إمكانات الطاقة الذرية فى قطعة القرميد التى أشار إليها أينشتاين.
وقد ضاع هذا المعنى الجوهرى لرأس المال عبر التاريخ. فمعنى رأس المال اختلط الآن بالنقود، التى لم تعد واحد فقط من الأشكال التى يتحرك فيها رأس المال، ومن الأيسر دائما تذكر مفهوم صعب فى أحد مظاهره الملموسة عن تذكر جوهره. والذهن يتجه نحو معنى " النقود " بشكل أيسر مما يتجه نحو معنى " رأس المال ". ولكن من الخطـأ افتراض أن النقود هى التى تحدد رأس المال فى النهاية. فالنقود تيسر عقد الصفقات وتتيح شراء الأشياء وبيعها، ولكنها ليست فى حد ذاتها مصدر الإنتاج الإضافى.
الطاقة الكامنة فى الأصول
ماذا يثبت إمكانات أحد الأصول بحيث يستطيع توفير إنتاج إضافى ؟ ما القيمة التى يمكن استخلاصها من منزل مثلا وتحديدها بطريقة تتيح لنا إدراك أنها تمثل رأس مال ؟
فى وسعنا أن نبدأ باكتشاف جواب على ذلك السؤال عن طريق استخدام مثال الطاقة السابق. دعنا نتصور بحيرة جبلية. إننا نستطيع أن نفكر فى هذه البحيرة فى محيطها المادى وننظر فى بعض منافعها الأولية، مثل التجديف فيها وصيد الأسماك. ولكن عندما نفكر فى هذه البحيرة ذاتها كما يفكر فيها المهندس من خلال التركيز على قدرتها فى توليد الطاقة الكهربائية بواسطة محطة كهرومائية، أى كقيمة مضافة تتجاوز الوضع الطبيعى للبحيرة كمسطح من المياه، فإننا نرى فجأة الإمكانات التى يحققها وضع البحيرة المرتفع. والتحدى الذى يواجهه المهندس هو اكتشاف الوسيلة التى يستطيع بها تحويل هذه الإمكانية إلى شكل يمكن استخدامه لتحقيق عمل إضافى.
إن رأس المال، مثل الطاقة، قيمة نائمة. وإيقاظها لن يكون بالنظر إليها على أنها مجرد موجودات ولكن بالتفكير فيها يمكن أن تصنعه. ويتطلب الأمر عملية لتحويل الإمكانات الاقتصادية للأصول إلى شكل يمكن استخدامه للحصول على إنتاج إضافى.
ورغم أن العملية التى تحول إمكانات الطاقة فى المياه إلى كهرباء معروفة جيدا، فإن العملية التى تعطى الأصول الشكل المطلوب لتحقيق المزيد من الإنتاج ليست معروفة. ويرجع هذا إلى أن العملية الأساسية لم يتم إعدادها بطريقة مدروسة لخلق رأس المال، ولكن من أجل غرض بسيط هو حماية الملكية. ومع نمو نظم الملكية فى الدول الغربية، فإنها تطورت ببطء وتضمنت آليات متنوعة توحدت بالتدريج فى شكل عملية تمخض عنها رأس المال بصورة لم تعرف من قبل.
عملية التحول الخفى فى الغرب
بدأ نظام الملكية الرسمى فى الغرب فى تحويل الأصول إلى رأس المال عن طريق توصيف وتنظيم أكثر النواحى المفيدة اقتصاديا واجتماعيا المتعلقة بالأصول، والحفاظ على هذه المعلومات فى نظام مسجل ـ مثل إدراجها فى دفتر الاستاذ المكتوب أو على شاشة الكمبيوتر ـ ثم تجسيدها فى سند الملكية. وتحكم كل هذه العملية مجموعة من القواعد القانونية الدقيقة والمفصلة. ومن ثم فإن سجلات الملكية الرسمية وسندات الملكية تمثل مفهومنا المشترك لما هو مهم اقتصاديا بشأن أية أصول. وهى تهيمن وتنظم كل المعلومات ذات الصلة والضرورية لإدراك القيمة الكامنة فى أية أصول مما يتيح لنا السيطرة عليها.
إن أية أصول لم يتم تحديد جوانبها الاقتصادية والاجتماعية فى نظام رسمى للملكية يصبح تداولها فى السوق صعبا للغاية. إذ كيف يمكن السيطرة على كميات ضخمة من الأصول التى يتغير مالكوها فى اقتصاد سوقى عصرى ؟ وبدون هذا النظام، فإن الاتجار فى أية أصول، ولو فى قطعة من عقار، يتطلب جهدا ضخما لمجرد تحديد القواعد الأساسية للصفقة. هل يملك البائع العقار وله الحق فى نقل ملكيته ؟ هل يستطيع أن يرهنه ؟ هل سوف يحظى المالك الجديد بالقبول من جانب من ينفذون حقوق الملكية ؟ ما الوسائل الفعالة لاستبعاد المدعين الآخرين لحقول الملكية ؟ هذا هو السبب فى أن تبادل معظم الأصول خارج بلدان الغرب مقصور على دوائر محلية من الشركاء التجاريين.
ومن الواضح أن المشكلة الرئيسية للبلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة ليست الافتقار إلى القدرة على تنظيم المشروعات : فالفقراء كدسوا ما تبلغ قيمته تريليونات الدولارات من العقارات خلال السنوات الأربعين الماضية، ولكن ما يفتقرون إليه هو تيسير الحصول على آليات الملكية التى يمكن أن ترسخ قانونا الإمكانات الاقتصادية لما يحوزونه من أصول بحيث يمكن استخدامها لإنتاج وتأمين وضمان قيمة أكبر لها فى السوق الواسعة.
لماذا أصبح تكوين رأس المال يشكل هذا اللغز ؟ لماذا لم تشرح الدول الغنية، السريعة فى تقديم مشورتها الاقتصادية، كيف أن الملكية الرسمية لا غنى عنها لتكوين رأس المال ؟ والجواب عن ذلك هو أن العملية داخل نظام الملكية الرسمى، التى تحول الأصول إلى رأسمال من الصعب جدا تصورها. وهى تتوارى خلف آلاف من بنود القوانين، واللوائح، والأنظمة والمؤسسات التى تحكم هذا النظام. أى شخص يقع فى شرك هذا المستنقع القانونى سيضطر إلى تصور كيف يعمل هذا النظام بالفعل. والطريقة الوحيدة لتصوره تكون من خارج النظام ـ من القطاع غير القانونى ـ الذى يمارس فيه زملائى وأنا معظم بحوثنا. وتنتج نظم الملكية الرسمية فى بلدان الغرب ستة آثار تتيح لمواطنيها توليد رأس المال.
(1) تثبيت الإمكانات الاقتصادية للأصول. إذ أن رأس المال يولد من خلال التسجيل كتابة ـ على شكل سند ملكية، أو ضمان، أو عقد، أو غير ذلك من الوثائق ـ لأكثر الصفات الاقتصادية والاجتماعية فائدة فى مواجهة النواحى اللافتة للنظر التى يمكن تصورها للأصول. وهذا ما يتم توصيفه وتسجيله فى البداية بشأن القيمة الكامنة. وفى اللحظة التى تركز فيها انتباهك على سند ملكية منزل ما مثلا وليس على المنزل ذاته، فإنك تكون قد خطوت تلقائيا من العالم المادى إلى العالم الفكرى حيث يعيش رأس المال.
والدليل الذى يثبت أن الملكية الرسمية هى مفهوم صرف يأتى حين يتغير ملاك المنزل : حيث لن يكون هناك تغيير مادى، فالملكية ليست هى المنزل ذاته وإنما هى فكرة اقتصادية بشأن المنزل، تتجسد فى تمثيل قانونى لا يصف صفاته المادية ولكن يصف بالأحرى الصفات الاقتصادية والاجتماعية التى نعزوها نحن كبشر إلى المنزل ( إمكانية استخدامه لأغراض متعددة لتوفير الأموال ـ من أجل استثماره مثلا فى مجال الأعمال دون الحاجة إلى بيعه ـ ليكون بمثابة ضمان للمقرضين فى شكل توقيع الحجز عليه أو الرهن أو حق الارتفاق أو غير ذلك من العقود ). وفى الدول المتقدمة يعمل هذا التمثيل الرسمى للملكية كضمان لمصالح الأطراف الأخرى وتحقيق الخضوع للمساءلة عن طريق توفير كل المعلومات، والمراجع، والقواعد، وآليات التنفيذ اللازمة لتحقيق ذلك.
ولذا فإن الملكية القانونية أعطت لبلدان الغرب الأدوات اللازمة لإنتاج فائض القيمة علاوة على أصولها المادية. وسواء أراد أى شخص ذلك أو لم يرد، فإن نظام الملكية القانونى أصبح بمثابة الدرج الذى صعدت عليه هذه البلدان من عالم الأصول فى وضعها المادى إلى العالم الفكرى لرأس المال حيث يمكن النظر إلى الأصول بكل إمكاناتها الإنتاجية.
(2) إدماج المعلومات المتفرقة فى نظام موحد. يرجع سبب انتصار الرأسمالية فى الغرب وانتشارها فى باقى أنحاء العالم إلى إدماج معظم الأصول فى بلدان الغرب فى نظام تمثيلى رسمى واحد. ولم يتم هذا الإدماج عرضا. فخلال عشرات السنين فى القرن التاسع عشر قام سياسيون ومشروعون وقضاة بتجميع الحقائق والقواعد المبعثرة التى كانت تحكم الملكية فى المدن والقرى والمبانى والحقول وإدماجها فى نظام واحد. وأتاح هذا الإدماج لعناصر الملكية، وهو ما يمثل مرحلة ثورية فى تاريخ البلدان المتقدمة، وضع كل المعلومات والقواعد التى تحكم الثروة المتراكمة لمواطنيها فى قاعدة واحدة للمعرفة. وقبل هذه الفترة كان من المتعذر للغاية الحصول على معلومات. وكانت كل مزرعة أو مستوطنة تقوم بتسجيل أصولها وقواعدها التى تحكمها فى دفاتر استاذ بدائية أو فى شكل رموز أو شهادات شفوية. ولكن المعلومات كانت متناثرة ومتفرقة ولم تكن متاحة لأى عميل فى أى وقت معين.
ولم تنشئ البلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة نظما موحدة للملكية الرسمية. وفى كل البلدان التى دارت بحوثى حولها لم أجد أى نظام قانونى واحد، بل وجدت عشرات ومئات النظم التى تمارسها كل أنواع المنظمات، بعضها قانونى والبعض الآخر غير قانونى، وتتراوح بين جماعات صغيرة تقوم بتنظيم المشروعات ومنظمات ضخمة تتولى أعمال الإسكان. ومن ثم فإن ما يستطيعه الناس فى هذه البلدان تجاه ممتلكاتهم كان محدودا بتصور مالكيها ومعارفهم. أما فى البلدان الغربية، حيث يتم معايرة المعلومات وتصبح متاحة للجميع، فإن ما يستطيع الملاك عمله بما لديهم من أصول يستفيد من تصور جماعى لشبكة واسعة من الناس.
ومما قد يثير الدهشة لدى القارئ الغربى أن معظم بلدان العالم لم تقم بعد بتوحيد اتفاقيات الملكية غير القانونية فى نظام قانونى رسمى. وبالنسبة لسكان غرب أوروبا من المفترض أن يكون هناك قانون واحد، هو القانون الرسمى. غير أنه كانت القاعدة السائدة فيما مضى هى وجود ترتيبات مختلفة للملكية غير الرسمية فى كل بلد، أما اعتماد الغرب على نظم موحدة للملكية فإنه يمثل ظاهرة لا يزيد عمرها على المائتى سنة الأخيرة. والسبب فى صعوبة متابعة تاريخ توحيد تلك الطائفة الكبيرة من نظم الملكية، هو أن العملية استغرقت وقتا طويلا جدا من الزمن.
(3) إخضاع الناس للمساءلة. إن إدماج كل نظم الملكية فى قانون رسمى واحد نقل مشروعية حقوق الملاك من المحيط السياسى للمجتمعات المحلية إلى السياق الموضوعى للقانون العام. وأدى إعفاء الملاك من قيود الترتيبات المحلية وإدخالهم فى نظام قانونى أكثر اندماجا إلى تيسير إخضاعهم للمساءلة.
ونتيجة لتحويل الناس الذين لهم مصالح حقيقية فى الملكية إلى أفراد خاضعين للمساءلة تحول الجمهور المختلف إلى أفراد محددين. فلم يعد الناس فى حاجة إلى الاعتماد على علاقات الجوار أو اتخاذ ترتيبات محلية لحماية حقوقهم فى الأصول. وبذلك تحرروا لكى يكتشفوا كيف يمكن توليد فائض القيمة من أصولهم الخاصة. ولكن كان هناك ثمن يتعين دفعه : إذ بمجرد دخول الملاك فى نظام الملكية الرسمية فإنهم يفقدون وضعهم كأشخاص مجهولين فى حين يقوى خضوعهم الفردى للمساءلة. فالأفراد الذين لا يدفعون ثمن السلع أو الخدمات التى استفادوا منها يصبح فى الإمكان تحديدهم وتوقيع جزاءات عليهم فى شكل فوائد وتغريمهم وفرض حظر على شحن السلع إليهم وخفض معدلات ائتمانهم. وفى وسع السلطات معرفة المخالفات القانونية والعقود التى لم تنفذ، ووقف الخدمات وفرض الحجز على الممتلكات وسحب بعض امتيازات الملكية القانونية. إن احترام البلدان الغربية للملكية والمعاملات ليس مسجلا فى جينات مواطنيها وإنما هو ناجم من أن لديهم نظما للملكية الرسمية قابلة للتنفيذ. ويشجع دور الملكية الرسمية فى حماية الملكية وكذلك أيضا تأمين المعاملات، المواطنين فى البلدان المتقدمة على احترام سندات الملكية، وتنفيذ العقود والامتثال للقانون. ومن ثم فإن الملكية القانونية تدعو إلى الالتزام
ولذا فإن افتقاد الملكية القانونية يفسر لماذا لا يستطيع مواطنو البلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة التوصل إلى عقود مربحة مع الأجانب ولا يستطيعون الحصول على الائتمان أو التأمين أو خدمات المرافق العامة : إذ ليس لديهم ممتلكات يخسرونها. ونظرا لأنه ليس لديهم ملكية رسمية، فإنه لا ينظر إليهم جديا على أنهم أطراف متعاقدة إلا من قبل أفراد أسرتهم وجيرانهم المباشرين. إن الأشخاص الذين ليس لديهم ما يفقدونه يجدون أنفسهم وقد وقعوا فى شراك البيئة السيئة التى كانت سائدة فى عصر ما قبل الرأسمالية.
(4) جعل الأصول قابلة للاستبدال. إن أحد أهم الأشياء التى يحققها نظام الملكية الرسمى هو تحويل الأصول من حالة تقل فرص التصرف فيها إلى حالة تزيد فرص التصرف فيها، وبذلك يمكن أن تحقق مهمة إضافية. وبعكس الأصول المادية، فإن الأصول القانونية يمكن تجميعها، وتقسيمها، وإسالتها بسهولة واستخدامها لتحفيز الصفقات التجارية. إذ من خلال فصل السمات الاقتصادية لأحد الأصول عن حالته المادية الصلبة فإن شكله القانونى يجعله " قابلا للاستبدال "، ويمكن تشكيله بحيث يصلح عمليا لأية صفقة.
ومع توصيف كل الأصول فى فئات معيارية، يمكن نظام الملكية الرسمى الموحد من المقارنة بين بنائين مختلفين هندسيا تم إنشاؤهما لنفس الغرض. وهذا يسمح بالتمييز بسرعة وبدون تكلفة بين أوجه التماثل والاختلاف فى الأصول دون أن تكون هناك حاجة للتعامل مع كل أصل منها كما لو كان فريدا فى حد ذاته. ويتم أيضا فى دول الغرب توصيف الملكية المعيارية كتابة لتيسير توحيد الأصول. وتقتضى قواعد الملكية الرسمية وجود أصول يتعين توصيفها وتمييزها بطريقة تبين ليس فقط سماتها الخاصة ولكن تشير أيضا إلى أوجه التشابه بينها وبيم الأصول الأخرى، وبذلك تجعل أوجه التوحيد الممكنة الأخرى أكثر وضوحا. ومن خلال استخدام السجلات المعيارية، يستطيع المرء تحديد كيفية استغلال أصل ما بأكثر الطرق ربحية.
ويمكن التمثيل أيضا المرء من تقسيم الأصول دون أن يمسها. ففى حين أن أى أصل من الأصول كمصنع مثلا يمكن أن يكون وحدة لا يمكن تقسيمها فى العالم الحقيقى، فإنه فى العالم النظرى لتمثيل الملكية الرسمية يمكن تقسيمه إلى أجزاء عديدة. ولذا يستطيع المواطنون فى البلدان المتقدمة تجزئة معظم أصولهم إلى حصص يستطيع أن يمتلك كلا منها أشخاص مختلفون لهم حقوق مختلفة، ويردون وظائف مختلفة.
وسند تمثيل الملكية الرسمية يمكن أيضا أن يكون بديلا منقولا للأصول المادية، مما يتيح للملاك ومنظمى المشروعات محاكاة أوضاع افتراضية بغية استكشاف استخدامات أخرى مربحة لأصولهم. وفضلا عن ذلك فإن جميع وثائق الملكية الرسمية المعيارية تصاغ بطريقة تيسر قياس الأصول بسهولة. وأدى توفير المقاييس المتعلقة بنظم الملكية الرسمية الغربية إلى خفض ملحوظ فى تكلفة صفقات حشد الأصول واستخدامها.
(5) ربط الناس فى شبكات. ترتب على جعل الأصول قابلة للاستبدال، وربط الملاك بالأصول، وربط الأصول بالعناوين، وربط الملكية بالتنفيذ، وتيسير الحصول على المعلومات المتعلقة بتاريخ الأصول والملاك، تحويل نظم الملكية الرسمية للمواطنين فى الغرب إلى منظمات عمل تتكون من عملاء تجاريين يمكن تحديدهم ومساءلتهم شخصيا. وقد خلقت عملية الملكية الرسمية بنية أساسية كاملة من أدوات الاتصال التى تتيح للأصول ( القطارات )، مثلما تفعل أجهزة تحويل السكك الحديدية، أن تجرى بأمان بين الناس ( المحطات ). ولا يتمثل إسهام الملكية الرسمية للجنس البشرى فى حماية أولئك الذين يحتلون الأراضى دون وجه حق، فمنظمات الإسكان وعصابات المافيا، حتى القبائل البدائية تحمى أصولها بكفاءة تامة. ولكن الإنجاز الحقيقى لنظام الملكية أنه أدى إلى تحسين جذرى فى تدفق الاتصالات بشأن الأصول وإمكاناتها، كما أنه عزز وضع الملاك.
وتقوم الملكية القانونية أيضا فى دول الغرب بتزويد دوائر الأعمال بالمعلومات حول الأصول وملاكها، والعناوين المثبتة، والتسجيلات الموضوعية لقيم الملكية، وكلها تؤدى إلى تيسير عمليات الائتمان.
ويبدو أن الكثيرين يلاحظوا أن نظام الملكية القانونية لبلد متقدم يعتبر مركزا لشبكة معقدة للاتصالات التى تعبئ المواطنين العاديين لخلق روابط مع كل من الحكومة والقطاع الخاص، ومن ثم الحصول على سلع وخدمات إضافية. ومن الصعب، دون وجود أدوات الملكية الرسمية، تصور كيف كان يمكن استخدام الأصول فى أى شئ مما أنجزته فى دول الغرب.
(6) حماية المعاملات. من الأسباب المهمة التى تفسر كيف يعمل نظام الملكية الرسمية الغربى كشبكة موحدة، أن جميع وثائق الملكية (سندات الملكية، وصكوك الملكية العقارية، والضمانات، والعقود التى تصف الجوانب الاقتصادية البارزة للأصول) يتم تتبعها وحمايتها باستمرار خلال مراحل سيرها فى الزمان والمكان. والهيئات العامة هى القيم على التمثيل فى الدول المتقدمة. فهى تتولى إدارة الملفات التى تحتوى على الأوصاف المفيدة اقتصاديا للأصول، سواء كانت أراضى، أو مبانى، أو قطعان ماشية، أو سفنا، أو صناعات، أو مناجم، أو مطارات. وهذه الملفات تنبه أى شخص يتوق إلى استخدام أحد الأصول إلى الأشياء التى قد تقيد أو تعزز استخدامها، مثل الديون العقارية، أو حقوق الارتفاق، أو عقود الإيجار، أو المتأخرات، أو الإفلاس، أو الرهن العقارى. وبالإضافة إلى النظم العامة لامساك السجلات أنشئ الكثير من الخدمات الخاصة الأخرى ( مثل منظمات الضمان المجمد، أو المنظمات المقفلة، أو المثمنون ) لمساعدة الأطراف على تثبيت أو تحريك أو تتبع تمثيل الأصول لكى يمكن أن تنتج فائض القيمة بسهولة وأمان.
ورغم أن النظم الغربية أنشئت لحماية أمن الملكية والمعاملات على السواء، فمن الواضح أنها تؤكد على المعاملات. ويتركز الأمن فى الأساس على توفير الثقة فى المعاملات لكى يسهل على الناس جعل أصولهم تحظى بمعاملة موازية كرأس المال. والتأكيد فى الغرب على أمن المعاملات يسمح للمواطنين بتحريك كميات كبيرة من الأصول بقدر قليل جدا من المعاملات. وفى البلدان النامية، على العكس، يقع القانون والهيئات الرسمية فى شراك القانون الاستعمارى والرومانى السابق الذى يميل إلى حماية الملكية، وبذا أصبحت حامية لرغبات الموتى.
الخلاصة
يحدث قدر كبير من تهميش الفقراء فى البلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة بسبب عدم قدرتهم على الإفادة من الاثار الستة التى تحققها الملكية الرسمية، والتحدى الذى تواجهه هذه البلدان ليس ما إذا كان ينبغى لها أن تنتج أو تتلقى أموالا أكثر، ولكن ما إذا كانت تستطيع أن تدرك قيمة المؤسسات القانونية والتزود بالإرادة السياسية اللازمة لإقامة نظام للملكية يمكن للفقراء استخدامه بسهولة.
وقد رأى المؤرخ الفرنسى فرناند بروديل أنه مما يثير الحيرة الشديدة أن الرأسمالية الغربية فى مستهل وجودها كانت فى خدمة القلة الممتازة فقط، وهو ما يحدث تماما فى كل مكان من العالم اليوم :
" إن المشكلة الرئيسية هى اكتشاف السبب فى أن ذلك القطاع من المجتمع الذى لا أتردد فى وصفه بأنه رأسمالى، كان يتعين عليه فى الماضى أن يعيش كما لو كان فى ناقوس زجاجى لا صلة له بأى شئ آخر، ولماذا لم يكن هذا القطاع قادرا على التوسع وغزو المجتمع كله ؟ … [ ولماذا كان ] تكوين نسبة كبيرة من رأس المال ممكنا فى قطاعات معينة فقط وليس فى كل الاقتصاد السوقى فى ذلك الزمن ؟ ".
أعتقد أن الرد على سؤال بروديل يكمن فى وجود قيود تحول دون الحصول على الملكية الرسمية، سواء فى الغرب فيما مضى أو فى البلدان النامية والبلدان الشيوعية السابقة اليوم. إن المستثمرين المحليين والأجانب لديهم رؤوس أموال، وأصولهم إلى حد ما متكاملة، وقابلة للاستبدال، ومتشابكة وتحظى بحماية نظم الملكية الرسمية. ولكنهم أقلية ضئيلة فقط تتكون من أولئك الذين فى وسعهم تحمل نفقات المحامين الخبراء، والاتصالات مع أصحاب النفوذ، والصبر، وهى أمور ضرورية للتغلب على الروتين السائد فى نظمهم المتعلقة بالملكية الرسمية. أما الأغلبية الكبيرة ممن لا يستطيعون جنى ثمار عملهم الذى يمثله نظام الملكية الرسمية، فإنهم يعيشون خارج الناقوس الزجاجى الذى أشار إليه بروديل.
إن الناقوس الزجاجى يجعل الرأسمالية ناديا خاصا لا تدخله إلا النخبة القليلة من أصحاب الامتيازات، ويثير غضب الملايين الذين يقفون خارجه متطلعين إليه. وهذا التمييز العنصرى الرأسمالى سوف يستمر إلى أن يتم تصحيح الخلل الشديد الذى يسود النظم السياسية والقانونية فى كثير من البلدان، وهى النظم التى تحول بين الأغلبية وبين الدخول فى نظام الملكية الرسمية.
وقد حان الوقت لمعرفة لماذا لم تستطع معظم البلدان إنشاء نظم مفتوحة للملكية الرسمية. هذا هو الوقت الملائم، حيث يقوم العالم الثالث والبلدان الشيوعية السابقة بأكثر محاولاتهما طموحا لإقامة النظم الرأسمالية، ولإزالة هذا الناقوس الزجاجى.
اقتبست هذه المقالة من الفصل الثالث من كتاب المؤلف، " لغز رأس المال : لماذا تنتصر الرأسمالية فى الغرب وتفشل فى أماكن أخرى ". (New York : Basic Books and London : Bantam Press/Random House 2000).
المراجع : Fernand Braudel, The Wheels of Commerce —New York: Harper and Row,1982.
Adam Smith, The Wealth of Nations —1776; reprint, London: Everyman's Library, 1977.
هيرناندو دى سوتو يعمل رئيسا لمعهد الحرية والديمقراطية (ليما)، وهو مستشار اقتصادى وسياسى سابق لرئيس بيرو، وهو مؤلف كتاب " الدرب الآخر : الثورة غير المنظورة فى العالم الثالث (القاهرة، مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1997).