2011-05-21

الصحفي و الوزير‏!‏


من القاهرة
الصحفي و الوزير‏!‏

بقلم: د.عبد المنعم سعيد
د.عبد المنعم سعيد
782
 
عدد القراءات


قليلة هي الأعمال التي تلخص أحوالنا وتضع النقاط علي الحروف فيها‏,‏ وتبرزها لنا في حالة نقية وصافية‏,‏ بحيث نتبين وضوح معالمها‏,‏ ونستطيع ساعتها أن نعرف أسباب الحالة التي نعيش فيها‏.
وربماـ ساعتها أيضاـ نستطيع أن نخرج من الأسباب إلي السياسات التي ينبغي اتباعها حتي ننتقل إلي حالة أو حالات أفضل; ومن يعرف ربما نلحق بركب الدول التي توصف بأنها متقدمة في العالم. ولا يخفي علي أحد أن هناك الكثير من القضايا المعلقة في الفضاء السياسي والاقتصادي والثقافي المصري يجري حولها الحديث أحيانا, والشجار أحيانا أخري, ولكن هناك غراما دائما في أن تبقي هكذا حالها لا يظهر فيها نقاط الاتفاق والخلاف, ومزايا ومثالب كل مسار, وما حدث في تجارب الدول الأخري التي يجري استدعاؤها حسب الأمزجة أو عندما تتوافق مع واحدة من وجهات النظر أو حتي من أجل الإحراج والشماتة.
والقائمة طويلة وتشمل قضايا متعددة, وهل ننسي ما يجري من وقت لآخر من أحاديث حول الدستور, وعلاقة الدين بالدولة, ومدي تدخل الدولة في الاقتصاد, والحد الذي يمكن فيه الاستفادة من تجارب الدول الأخري في الشرق والغرب, ومتي تقف الاستفادة لكي تقفز الهوية والخصوصية والذاتية, والذي فينا ولا يعرفه أحد لا من قبل ولا من بعد لكي يبقي الأمر تفكيرا أو تذكيرا علي ما هو عليه. وهل يمكن تجاهل قضايا المرأة ومكانتها في المجتمع, حتي هذه اللحظة, عما إذا كان واجبا أو ممكنا دخولها إلي مجال العمل أم أن مكانها حيث تتناسب طبيعتها ـ هكذا يقال ـ في بيتها تربي الأجيال وتساند الأزواج. وماذا عن قضايا الوحدة الوطنية التي يحلف الجميع بأغلظ الأيمان أنها في أحسن حال, بينما يراها آخرون أنها ليست بتلك الحال, وإنما هي في حالة أخري يكون فيها حلو اللسان عن المساواة أما عندما يصل الأمر إلي الواقع نجد أنفسنا أمام شعب آخر.
ولكن من بين هذه القضايا الشائكة جميعا توجد حزمة أو شبكة من الموضوعات التي تبدو لي أنها حاكمة لكثير من المسائل الأخري تتمحور حول مفهوم الخصخصة الذي تجري حوله وترتبط به مفاهيم أخري, مثل اقتصاد السوق وشكل الملكية فردية أو جماعية والعلاقة مع الاقتصاد العالمي الذي يقوم بشكل أو آخر علي الفكرة الرأسمالية بعد أن تم التخلص من الأغلبية الساحقة من الدول الاشتراكية, ولما يبق إلا القليل منها مصحوبا بعدد لا بأس به ممن يريدون نوعا من التلفيق ما بين الفكرتين والنظامين.
ووسط هذه العملية المتشابكة من الأفكار والنظم يصعب دائما وجود عمل صحفي أو فكري يمكنه أن يصفيها من شوائبها ويضعها علي مائدة البحث كما يفعل الطبيب الذي يقوم بتطهير وتعقيم المريض قبل إجراء العملية الجراحية حتي تكون جاهزة لما سيأتي من علاج أو جراحة. ولكن فعلها الكاتب والصحفي الكبير والقدير ـ ونقيب وزعيم الصحفيين ـ الأستاذ مكرم محمد أحمد عندما قام بالحوار مع الدكتور محمود محيي الدين وزير الاستثمار علي صفحات الأهرام يوم السبت الماضي تحت عنوان لماذا كان ينبغي أن نعيد النظر في الخصخصة؟!; ولم يكن ذلك عنوانا بل خبرا أيضا لأن أحدا لم يكن يعرف أنه قد تم اتخاذ قرار من الدولة أو المجتمع بإعادة النظر في الخصخصة, لسبب بسيط هو أنه لم يكن معروفا أن هناك قرارا ـ بكل ما يعنيه القرار من معني التنفيذ والنفاذ والسرعة في التطبيق ـ بخصخصة الاقتصاد المصري من الأساس.
طرفا الحوار ينتميان إلي جيلين مختلفين, الصحفي كان بارزا عبر عصور مختلفة, ومعروف بنقاء الفكرة مع حسم الموقف, وله في النبل أحوال كثيرة في الخدمة العامة والمهنة الصحفية. ولكن أبرز ما فيه أنه يعبر عن عصر كامل مر بمصر منذ الأربعينيات من القرن الماضي وظل مظللا عليها بمفاهيم للحرية والعدل كانت بنت أيامها, وفي كل الأحوال لم تخدشها أو تفض بكارتها تجارب الأيام بين الشعوب والأمم. الوزير ابن جيل آخر جاء إلي الدنيا والسياسة مع الثلث الأخير من قرن ما لبث أن ولي وراح, وأخذته أسرته السياسية من الجامعة إلي دنيا الخدمة العامة والسياسة بعد أن طاف الدنيا يطلب علما وينهل من عالم تغير كما لم يتغير في زمن آخر. وعندما دخل الوزارة كانت حقيبته في قلب الموضوع حيث الاستثمار والاستثمارات والتراكم الرأسمالي يقع في قلب الانتقال الوطني من حال إلي أخري. وعندما جلس الصحفي والوزير معا من أجل الحوار كان هناك عالمان يلتقيان, ويدركان ما بينهما من حيرة واغتراب لم يفلح الوطن في الخروج منهما بعد.
الحوار يعكس هذه الحيرة بين الصحفي والوزير, حيث الأول يعتقد اعتقادا جازما أن هناك قرارا كان موجودا ويجري الآن إعادة النظر فيه, لأن الوزير صرح بأنه لن يقوم ببيع مؤسسة اقتصادية عامة لمستثمر رئيسي, وإنما سيطرح بعضا من أسهمها في البورصة ويبقي للدولة القدرة علي التحكم في الوحدة الاقتصادية وهو ما يعني في الواقع العملي وجود قطاع عام قوي داخل القطاع الخاص فتحصل الوحدة الجديدة التي هي ليست عامة نقية, ولا خاصة صافية, علي مساوئ كليهما. الوزير من ناحيته يعرف الحقيقة تماما, وهو أنه لا يوجد تقرير دولي واحد يعترف بمصر ضمن الدول التي تحولت إلي اقتصاد السوق, وهو يعلم تماما أن الاقتصاد العام في مصر واسع وفسيح ويشمل كل أشكال البنية الأساسية من مواصلات واتصالات وطاقة وطرق وموان ومطارات وكهرباء وماء وصناعات إستراتيجية ومزارع عامة, فضلا عن أرض مصر كلها البالغة مليون كيلومتر مربع,93% منها كالعذراء لم يمسسها بشر. وما جري منذ أعوام طويلة هو أن الدولة وجدت أن هناك314 شركة عامة( في مصر أكثر من70 ألف شركة) يمكن خصخصتها لا يوجد فيها من العمال أكثر كثيرا من300 ألف عامل( يقترب عدد العاملين في مصر من24 مليون نسمة). وما جري فعليا أنه بعد خمسة وثلاثين عاما من الانفتاح الاقتصادي, والإصلاح المالي, والتحول كما قيل نحو اقتصاد السوق, ومتابعة التطورات والنظريات العالمية في التغيير والتقدم, ودخول مصر إلي منطقة الدول البازغة والناشئة والصاعدة, فإن ما تمت خصصته لا يزيد علي149 شركة وبقيت165 علي حالها في حماية الدولة والمجتمع. ويلخص الوزير الموقف الذي يعرفه تماما حين يقول بالرجاء والدعوة للتفهم: يبدو أنني سوف أستعين بالمثل الشعبي الذي يقول الصيت ولا الغني لأنه برغم هذا الوصف الذائع بأننا أكثر حكومات مصر ليبرالية, فإننا في حقيقة الأمر لم نبع أكثر من سبع شركات من جملة شركات قطاع الأعمال المؤهلة للبيع. لاحظ هنا سبع شركات باعتها حكومة متهمة ببيع مصر, وعلي مدي خمس سنوات أو أكثر من عمر الحكومة, ولكن حتي لا تأخذك الظنون بعيدا عن الحالة الرأسمالية للحكم, وزواج رأس المال بالسلطة كما يذاع, فلا بد أن تستمر في قراءة ما قاله الوزير لأنه يحكي قصتنا كاملة حينما يفصل فيما فعلته الحكومة بشركاتها السبع المباعة: ثلاث من هذه الشركات التي تم بيعها ذهبت إلي وزارة الدفاع( هل يوجد ما هو وطني وقومي وعام أكثر من ذلك؟) ورابعة ذهبت إلي جهة سيادية أخري, وعلي عكس الشائع أعدنا إلي ملكية الدولة عددا من الشركات التي كان قد تم بيعها للعاملين فيها عام1997 وعددها33 شركة لم تحقق أي منها نجاحا يذكر بعد خصخصتها.
قصة الثلاثة والثلاثون شركة التي جري خصخصتها في السابق بتمليكها للعمال لم يجر أبدا روايتها لأنها لا تخص مستثمرا رئيسيا, ولا شركة متعددة الجنسيات, ولا مجموعة من الرأسماليين المصريين الذين اشتروا أسهما وحصلوا علي حقوق الأغلبية; ولكنها تقول لنا الكثير عن جوهر عملية الخصخصة التي تمت, أو قل التي لم تتم أيضا. ومع ذلك, وبعد شرح الوزير المستفيض, والمعتذر بدرجة أو أخري عن أمور لم تحدث من الأصل, فإن الصحفي يسأل فورا عن سبب الحرص علي الهرولة إلي الخصخصة, وكأن ثلاثين عاما من سير السلحفاة ليس دليلا كافيا علي التأني, مادام جري خفض مديونيات قطاع الأعمال العام بعد جهد جهيد وبدأ بعضها يعطي3.7 مليار جنيه من الأرباح بينما لا تزال مديونيته قدرها ستة مليارات. وكانت آخر مرة استمعت فيها إلي كلمة الهرولة قد جاءت من السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية إبان عملية السلام العربية ـ الإسرائيلية في منتصف التسعينيات, وشاعت الكلمة حتي كتب عنها نزار قباني- رحمه الله ـ قصيدة, وبعد عقد من الزمان كانت الهرولة قد انتهت ومعها السلام والأرض معا.
لاحظ هنا أن الصحفي ليس مهتما إطلاقا بإجراء المقارنة بين قطاع الأعمال العام والقطاع الخاص, وما يدفعه الأخير من ضرائب للدخل والمبيعات والشركات المملوكة للدولة, ولا جرت مقارنة أبدا مع دول طالما استعذبنا المقارنة معها مثل تركيا وماليزيا وبولندا والبرازيل وأنواع مختلفة من فهود ونمور الدول وما حدث فيها من برامج للخصخصة والتحول إلي اقتصاد السوق وما تبقي من طوائف التغيير التي جرت في العالم خلال العقدين الأخيرين. ولأن الصحفي هنا بقدراته الكبيرة يكاد يكون ملخصا لكثير من الآراء الشائعة والمعبرة عن عصور مصرية بأكملها فإنه ينظر بحالة من التوجس الدائم إلي كل ما له علاقة بالقطاع الخاص أو من يقترب منه, ولديه مصدر للمعلومات تكاد تجده علي لسان كثرة من الصحفيين والمعلقين بالتليفزيون والمتحدثين في البرامج الحوارية واسمه البعض, فيكون السؤال: البعض يعتقد أن الإضرابات الأخيرة التي حدثت في بعض شركات الأعمال وخروج عمال هذه الشركات في وقفات احتجاجية أمام مجلس الشعب, هي من مثالب الخصخصة التي أهدرت حقوق عمال هذه الشركات. وبعد ذلك يمضي السؤال لكي يعدد ما يفعله بعض المستثمرين من تخسير أعمالهم لكي يتحولوا إلي الاستثمار العقاري, أو طرد العمال بحجة العمالة الزائدة.
ليس مهما هنا التنويه عما إذا كان المقصود هنا حالات فردية أو حالات عامة في الشركات التي تمت خصخصتها, ولا يعنينا الآن عما إذا كان هناك حق لصيق في اقتصاد السوق أن يتحول المستثمر من قطاع استثماري إلي آخر أكثر ربحا وعائدا أم أن الأصل في العملية الاستثمارية كلها أن يستثمر الاستثمار الناجح حيث توجد الخسائر الدائمة!. ولكن ما يهمنا ويعنينا أن هذا البعض المجهول دائما ليس علي صواب, ولذا يجري الوزير فورا إلي نفي تهمة الاحتجاجات, بل إنه يقطع ـ هكذا قال ـ بأن غالبية الاحتجاجات تمت في قطاعات حكومية لا يوجد ما هو عام أكثر منها. والحقيقة أن جميع الدراسات والبحوث التي جرت علي هذه التحركات الاحتجاجية أثبتت أن الأولوية فيها للقطاع الحكومي, ثم القطاع العام والهيئات العامة, وأخيرا يأتي القطاع الخاص بأشكاله المختلفة.
ولما كان كل ذلك غائبا, ويقوم علي ذلك البعض الذي هو في حقيقته نوع من المعتقدات الشائعة بين صفوف النخبة وجري ترديدها بإلحاح حتي تم تصديقها وصارت من الكتب المقدسة, فإن الصحفي ليس مهتما بتتبع نتائج الخصخصة الفعلية, وما جري للاستثمارات الخاصة في مصر ولا نتائجها, ولا مدي ما قدمته للمجتمع من ضرائب وتشغيل وتصدير علي الأقل مقارنة بما قدمه النموذج الآخر القائم علي الملكية العامة. ولكن المهمة الواقعة عليه هي السؤال عن الدروس المستفادة من أخطاء الخصخصة الذي ينتظر إجابة واضحة تكشف عن بدائل الخصخصة. وبعدها يمضي للتعريض ببرنامج عرضه الوزير من قبل عرف باسم الصكوك الشعبية والذي اعتبره الكثيرون ـ وهي كلمة أخري مرادفة لكلمة البعض ـ طريقا مراوغا للتخلص من شركات قطاع الأعمال العام.
لاحظ هنا أن تركيب القصة كلها يبدو غريبا للغاية, فلدينا خصخصة محدودة للغاية يجري تصويرها من قبل الصحفي علي أنها كاسحة, ونتائج اجتماعية وسياسية نتيجة تحولات كثيرة في المجتمع والدولة والعالم يجري تصويرها علي أنها نتيجة للخصخصة التي لم يحدث منها إلا القليل. وبين هذا وذاك يجري الحديث عن الاحتكارات الكبري في الدولة في مجالات الأسمنت حيث توجد20 شركة, والحديد حيث توجد18 شركة أخري, والقمح واللحوم التي يتم إنتاجها وبيعها وشراؤها واستيرادها عن طريق الفلاحين المصريين ومن قبلهم وبعدهم الحكومة التي تقوم بالاستيراد; وكأنه لا توجد في دولة مصر جهات حكومية معنية بتحديد ومكافحة حالات الاحتكار. ولذا فإن الوزير يعود مرة أخري إلي التأكيد علي أن الحكومة التي ينتمي إليها كانت هي التي قدمت قوانين حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وقانون حماية المستهلك; ولكن السؤال لم يطرح للنقاش أبدا لماذا لم تكن هذه القوانين موجودة منذ وقت طويل, أو طالب بها أحد عندما كانت الدولة تحتكر كل شيء, ولم يكن علي المستهلك إلا أن يقبل ويطيع.
ولكن الصحفي يفصح في النهاية عن موقفه, وموقف عصره, من حالة السوق المثالية حيث تتدخل الدولة لتحديد الأسعار, ولكن, والكلام للصحفي, إذا كان التسعير الجبري للسلع الأساسية يتعارض مع قواعد تحرير الأسواق, فلماذا ترفض الحكومة الأخذ بنظام السعر الاسترشادي الذي يقوم علي حساب كلفة الإنتاج إضافة إلي تحديد نسبة من الربح العادل... هنا يسلب الصحفي السوق أهم خصائصها وهو تحديد السعر العادل ويضعها في يد حزمة من الموظفين الذين عليهم إصدار كتاب كل ساعة ولكل إقليم حسب الفقر والغني وما بينهما من ستر أو يسر ولكل فصل من فصول السنة, وبعد ذلك يضع الدولة أمام اختبار قاتل إذا ما وجدت أن أسعارها الاسترشادية لا معني لها في واقع متغير لا تتغير فيه طبيعة السلعة فقط, وأذواق المستهلكين وقدراتهم, ولكن مع كل ذلك أشكال وأثمان الدعاية وأشكالها. ولكن الاختبار الأهم سوف يكون لشعب المستهلكين الذين سوف يجدون أنفسهم أمام سوق سوداء مستديمة يضيع فيها معني العدل والرشاد. ولذلك فإن الوزير يتجنب مناقشة تلك المسألة الاسترشادية, ويشير إلي المنافسة كعاصم من زلل السوق وذنبه; وفي الحالتين تبقي الصور المتقابلة مع الصحفي حائرة وزائغة.
تهنئة للصحفي والوزير علي تعبير كل منهما عن عصره, وكان الحوار ممتعا ومفيدا أيضا لأنه وضع نقاطا كثيرة علي حروف وطن لم يصل بعد إلي مرافئ وصلت إليها دول كثيرة قبلنا, والمهم أن نستمر في الحوار ونأخذه خطوات إلي الأمام.
 amsaeed@ahram.org.eg
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق